المسار الديمقراطي التونسي

04:55 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

بعد وفاة الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي بتاريخ 25 يوليوز 2019، شهدت تونس تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة يوم 15 سبتمبر من العام الجاري، ضمن خطوة تضاف إلى مختلف التراكمات والمكتسبات السياسية والتشريعية التي شهدتها البلاد منذ عام 2011، وقد حظيت هذه الاستحقاقات باهتمام إعلامي دولي واسع، خاصة أن الأمر يتعلّق بتجربة واعدة ومتميزة على مستوى منطقتي شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وهي تأتي في خضمّ مجموعة من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ظلّت تخيّم بظلالها على البلاد، رغم الجهود المبذولة في هذا الصدد، كما تأتي أيضاً في مرحلة ما زال يطرح فيها الإرهاب من حين لآخر تحديات، لا تخفى تبعاتها على مستوى إرباك الجهود السياسية المبذولة..
انطلقت الحملة الانتخابية للمرشّحين على إيقاع التنافس الحادّ، واستمرت لما يقرب عن الأسبوعين، برزت معها الكثير من القضايا ضمن البرامج المطروحة، من قبيل التركيز على المعضلات الاجتماعية والاقتصاد، والحريات العامة وحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب، والملامح المقبلة للسياسة الخارجية للبلاد. وقد تميّزت هذه الحملة بتنظيم مجموعة من المناظرات التلفزيونية المفتوحة بين المرشحين، في خطوة غير مسبوقة في البلاد أو في المنطقة برمّتها.. ورغم ذلك، فقد نبّه الكثير من الباحثين والمراقبين إلى أن مجمل هذه النقاشات، لم تطرح مداخل استراتيجية واضحة، تكفل تجاوز الإشكالات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة.
تنافس في هذه الانتخابات 26 مرشحاً، يمثلون في مجملهم تيارات فكرية وسياسية مختلفة، بين مستقلين ومتحزبين، تباينت شعاراتهم وبرامجهم وتصوراتهم، بصورة تعكس الدينامية والانفتاح اللذين شهدتهما تونس في أعقاب «ثورة الياسمين»..
مرّت هذه الانتخابات في أجواء صحية، وتحت إشراف الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وبحضور عدد مهمّ من المراقبين المحليين الذين عينتهم هذه الهيئة، إضافة إلى منظمات غير حكومية، ونقابات تونسية، وآخرين أجانب من هيئات ومراكز دولية.. وتنطوي هذه الاستحقاقات على قدر كبير من الأهمية، بالنظر إلى سياقاتها، والانتظارات التي ترافقها بشأن تعزيز التحوّل الديمقراطي بالبلاد، ومواجهة مختلف الإشكالات الاجتماعية والاقتصادية المطروحة. وبالنظر أيضاً إلى المكانة التي تحظى بها مؤسسة الرئاسة على المستويين السياسي والدستوري (المساهمة في رسم السياسات العامة للبلاد، وإمكانية حل مجلس النواب، ورئاسة مجلس الأمن القومي، وقيادة القوات المسلحة، وإعلان حالات الحرب والسلم بعد موافقة البرلمان، والتعيين في عدد من الوظائف العسكرية والمدنية، وإمكانية طلب استفتاء على مشاريع القوانين، واتخاذ بعض التدابير والإجراءات الاستثنائية).
في السابع عشر من شهر سبتمبر الجاري، أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن حصول المرشّح المستقل وأستاذ القانون الدستوري «قيس سعيد» على المرتبة الأولى في هذه الانتخابات، عبر حصوله على 620 ألفاً و711 صوتاً، بنسبة تناهز 18,4 في المئة من أصوات الناخبين، فيما حصل «نبيل القروي» الإعلامي المعروف، والمرشح عن حزب «قلب تونس»، على المرتبة الثانية، بإحرازه ل 525 ألفاً و517 صوتاً، بنسبة 15,6 في المئة من مجمل الأصوات، وجدير بالذكر أن القضاء التونسي قام بتوقيف هذا المرشح، ووضعه رهن الاعتقال قبل عشرة أيام من انطلاق الحملة الانتخابية، بتُهم تتعلّق بالتهرّب الضريبي وتبييض الأموال.
وانطلاقاً من هذه النتائج التي لم تفرز مرشحاً فائزاً بأكثر من 50 في المئة من الأصوات، فقد تقرر إجراء دورة ثانية يتنافس فيها المرشحان الحائزان المرتبة الأولى والثانية فيما يتعلق بالأصوات.. وهي الدورة التي ستفرز نقاشات بصدد الوضع القانوني لمرشح قيد الاعتقال..
لا ينتمي المرشحان معاً إلى أحزاب تقليدية، ويبدو أنهما استفادا معاً بشكل كبير من حجم الاستياء الذي عبر عنه المواطن إما بالعزوف عن هذه الانتخابات أو بالتصويت العقابي أو رغبة منه في التغيير.. ويعتقد البعض أن نتائج هذه الانتخابات التي لم تتعدّ فيها نسبة المشاركة 45,02 في المئة من كتلة انتخابية تتجاوز سبعة ملايين ناخب مسجّلين في اللوائح الانتخابية، ستحدث هزّة كبيرة في المشهد السياسي للبلاد مستقبلاً، كونها تعبيراً عن عدم الرضا عن النخبة السياسية التقليدية التي لم تكن - بحسب الكثير من الناخبين والعازفين- في مستوى آمال المواطن التونسي بعد الثورة، ما كرّس قدراً من العزوف السياسي في أوساط الشباب الذين كانت مشاركتهم باهتة في هذا الاستحقاق.
عصفت نتائج انتخابات هذا الدور بمجموعة من النخب الوازنة في المشهد السياسي لتونس، كما هو الشأن بالنسبة للرئيس السابق منصف المرزوقي، وعضو حركة النهضة عبد الفتاح مورور، ورئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد.. ويبدو أن هذه النتائج تؤكد وجود قدر من أزمة ثقة المواطن في النخب والأحزاب التقليدية (إسلامية أو يسارية أو يمينية..) التي لم تستطع تحقيق جزء مهم من مطالب الثورة التي اندلعت في البلاد عام 2011، وبخاصة على مستوى تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ومكافحة الفساد وتخليق الحياة العامة..
لم تتمكّن النخب السياسية التي أفرزتها الثورة التونسية من الموازنة بين الإصلاحات التشريعية والمكتسبات السياسية التي سمحت بتعزيز حرية الرأي والتعبير، وإحداث عدد من المؤسسات، وسن مجموعة من التشريعات، وطي صفحات قاتمة من تاريخ البلاد.. من جهة، وبين الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي ظلت مطروحة بحدّة، جعلت الكثيرين لا يتذوقون طعم ما تحقق بعد الثورة.. بفعل ارتفاع الأسعار، وتراجع قيمة الدينار، وتفشي البطالة في أوساط الشباب..
ما زال هناك فصل مهم وحاسم من هذه الانتخابات التي ستفرز اسم الرئيس القادم لتونس، والذي سيكون مطالباً بتحصين المكتسبات التي تحققت على امتداد أكثر من ثماني سنوات، وتعزيزها، باتجاه ترسيخ مزيد من التوافقات الكفيلة بالتعاطي الفاعل مع عدد من الملفات الاجتماعية والاقتصادية ذات الأولوية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"