المناصب والكفاءات

02:54 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

تكمن الأزمة الحقيقية لنظم الحكم في الدول التي تفتقر إلى «الديمقراطية» الصحيحة ، في عدم القدرة على وضع الأنسب في المكان الأفضل نتيجة تأثير الدوافع الشخصية والأحكام الهوائية والمؤثرات التي تخضع لعوامل لا تتصل بالكفاءة أو الخبرة. وفي ظني أن هذه القضية هي واحدة من أخطر القضايا التي تواجهها بعض الدول ومنها مصر، إذ إن العلاقة بين المناصب والكفاءات هي علاقة عكسية في بلادنا،بل إننا نشهد نماذج صارخة للحصول على المناصب والسيطرة على المواقع والاستحواذ على المقاعد من دون سند حقيقي من التعليم والتدريب والمعرفة، والفارق بيننا وبين غيرنا ممن سبقونا على طريق التقدم أنهم أحسنوا الاختيار ولم يحاربوا الكفاءات ولم يستبعدوا أهل الخبرة وحرصوا دائماً على اختيار نموذج «الحصان» في أي وظيفة يتنافس فيها نموذجا «الحمار» و«الحصان»، فاستقطبوا الذكاء واهتموا بالموهبة وربطوا ربطاً مباشراً بين المنصب والكفاءة ولم يجعلوا للحظوة تأثيراً في الاختيار ولا عاملاً عند المفاضلة أمام التكليف المطلوب، ولا نتصور أبداً أن العلاقة بين المناصب والكفاءات هي علاقة إدارية أو مالية ولكنها في رأينا علاقة سياسية وقانونية في المقام الأول، ولعلنا نطرح بهذه المناسبة - عند دراسة هذه القضية المهمة - الملاحظات الآتية:

أولاً: إن المؤسسة هي الأصل والفرد يتبعها وليس العكس، بينما يبدو الأمر في بلادنا مختلفاً إذ تنسب المؤسسة إلى من يقف على قمتها ويطبعها بطابعه ويختمها بخاتمه ويكاد يكون هو صاحب القرار الأوحد فيها، يطيح بكل من يرى أنه يمكن أن يخلفه ،كما يسفه سابقيه ويمحو جهودهم ولو على حساب نجاح المؤسسة واستمرار حسن الأداء فيها، إذ لا يعنيه إلا استمراره في موقعه ،ولو بتجريف الكفاءات التي تليه مع الحرص على البقاء أطول فترة ممكنة من دون النظر للصالح العام أو الحفاظ على عنصر الاستمرارية والدوام عند تغيير الأشخاص وتناوب القيادات، وما أكثر المؤسسات في بلادنا التي رأيناها تتغير بتغير رؤسائها وتتحول في اتجاه مختلف عند تغيير من يقودها. فلم تعد المؤسسة في بلادنا كياناً ذاتياً يصنع الأفراد ،بل تحولت إلى كيان تابع يمضي وراء شخصية رئيسها أو مديرها أو صاحب القرار فيها، وفقدت هويتها وانقطع حبل التقاليد الوظيفية وتم خنق عشرات الكفاءات وإهمال مئات الخبرات وتجاهل عنصر الزمن بالتركيز على أهل الثقة على حساب ذوي الخبرة حتى أصبحت المؤسسة تنسب للفرد لا أن ينتسب الفرد إلى مؤسسته.

ثانياً: إن قضية الاختيار للمناصب المختلفة من بين الكفاءات المطروحة هي قضية محورية يجب أن تقوم على أسس موضوعية ونزاهة وتجرد لازمين لمواصلة المسيرة.. إذ لا نتصور أبداً أن تكون الأقدمية المطلقة هي بالضرورة عنصر الاختيار إلا في حالة تساوي الكفاءات أو على الأقل تقاربها كما أن التعليم والتدريب لازمان من أجل تأهيل المدير الناجح أو المسؤول المتميز، والتعليم وحده لا يكفي فقد يحوز شخص أعلى الشهادات الدراسية وأرقى الدرجات العلمية ،ولكنه لا يملك الصفات القيادية التي تسمح له أن يدير وأن يوجه. وهذه نقطة بالغة الخطورة، إذ لا يجب أيضاً اتخاذ تميز العنصر الشخصي مبرراً للإطاحة ببعض الكفاءات التي لا تجيد تسويق ذاتها أو الترويج لتاريخها ؛ لأننا نلاحظ أحياناً أن هناك حالات تخطٍ لكفاءات نادرة بدعوى وجود من هو أقوى في الشخصية وربما كان صاحب الشخصية القوية لا يملك النزاهة المطلوبة ولا الشفافية المنتظرة ولا الرؤية الضرورية.
ثالثاً: إن التوظيف في المواقع المختلفة يعتمد في «علم الإدارة» على ما يمكن تسميته «التوصيف الوظيفي «Job Description» «بحيث يحوز الفرد عند الاختيار نقاطاً محددة تعتمد على متطلبات موضوعة والتمييز بين الأشخاص المتقدمين للوظيفة وفقاً لتطابق أو تقارب كل منهم مع بنود «التوصيف الوظيفي»، ونحن بلد عريق في «البيروقراطية» لأنه عرف «الدولة المركزية» في طفولة التاريخ ومضى معها وبها عبر العصور. ولعل تمثال «الكاتب المصري» يمثل شخصية الموظف في العصر «الفرعوني» والذي ما زال ممتداً عبر الأجيال حتى أيامنا هذه. إننا يجب ألا ننسى أننا نملك واحداً من أقدم النظم الإدارية في تاريخ الإنسان!
رابعاً: إن الصراعات الوظيفية والغيرة الشخصية تقفان في مقدمة الأسباب التي تؤدي إلى الإطاحة بالخبرات وتجريف الكفاءات. إن «مجدي يعقوب» «جراح القلب العالمي» قد هجر وطنه لاستكمال دراسته بعدما حالت أسباب غير موضوعية دون توزيعه على القسم الطبي الذي يريده في كليته والذي تفوق فيه في الخارج وأصبح بحق جراح القلب الأشهر في العقود الأخيرة، كما أن «جمال حمدان» «مؤرخ الجغرافيا» و«راهب العلم» قد اعتكف ربع قرن في منزله يقرأ ويكتب متصوفاً في محراب المعرفة كرد فعل لتخطيه في الدرجة الجامعية التي يستحقها ومنحها لغيره لأسباب لا علاقة لها بالكفاءة العلمية أو المكانة الفكرية. إن الإطاحة بالخبرات وتجريف الكفاءات هي المؤشر المؤلم في حياتنا الإدارية وهي دليل على تغليب الدوافع الشخصية على الأسباب الموضوعية ،كما أنها تعصف بالقدرات والمواهب وتفتح الباب للإحباط الذي قد يصل إلى حد الثورة!
خامساً: إن هناك قضية ذات حساسية خاصة وهي مرتبطة بما يمكن تسميته بنظرية «الاختيار العكسي» التي تتلخص في تفصيل المناصب وفقاً للأشخاص، ولقد عرفنا في تاريخنا محاولات لتمييز بعض الأفراد فصنعنا لهم مؤسسات وهمية وأنفقنا أموالاً لا مبرر لها من أجل إيجاد مناصب كبرى يحوزها بعض أصحاب الحظوة وحملة المباخر ومرددي الأناشيد وهم في خدمة ولي الأمر في كل العهود دون تفرقة أو توقف، فنجد أنه بينما تحتاج الوظيفة إلى من يشغلها نجد أن المحظوظين هم الذين ينتظرون الوظائف التي يتم ترتيبها لهم بحكم الحسب أو النسب أو مراكز القوى في الدولة عموماً.
وإذا كان البعض يتساءل لماذا يبدو الشباب المصري أحياناً بعيداً عن دائرة الضوء السياسي والدور الوطني؟ فالإجابة أنه بسبب فقدان الثقة فيمن حوله وتراكم الإحباطات فوقه ،وشعوره بانعدام تكافؤ الفرص وشيوع المحسوبية والمحاباة وتجاهل التأهيل العلمي والتدريب العملي والنزاهة الشخصية والالتزام الوظيفي.. إنها قضية خطرة لو تعلمون، كما أن نتائجها كبيرة لو تدركون!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"