الموجة الزرقاء تجتاح "الاشتراكي" الفرنسي

04:42 صباحا
قراءة 3 دقائق
ما بعد الانتخابات البلدية الفرنسية سيكون مختلفاً عما قبلها بالنسبة لولاية فرانسوا هولاند الرئاسية . لقد جرت العادة عموماً أن يخسر الحزب الحاكم الانتخابات البلدية،لأسباب تتعلق بالسوسيولوجيا السياسية الفرنسية،إلا أن ما حل بالحزب الاشتراكي كان كارثة وليس مجرد خسارة ولو فادحة . وحتى المشاركة الضعيفة في الاقتراع (حوالي الستين في المئة بعدما كانت أكثر من ثمانين العام 2008 وخمسة وسبعين في العام 2002) لم تعكس فقط عدم اهتمام الفرنسيين بل على العكس اهتمامهم بمقاطعة قادتهم الذين نظموا الانتخابات . أما الذين ذهبوا للاقتراع فليصبوا في مصلحة المعارضة اليمينية . لقد اجتاحت "الموجة الزرقاء" (الحزب اليميني الساركوزي) المشهد الانتخابي لتقلب مدناً كانت في يد اليسار منذ أكثر من قرن كامل (ليموج مثلاً) أو ستين عاماً (مثل نيور) أو ربع قرن (مثل شامبيري أو دانكرك) ومدن كبرى مثل تولوز أو مرسيليا، إضافة إلى مئة وخمسين مدينة أخرى متوسطة وصغيرة خسرها الحزب الاشتراكي لمصلحة اليمين الأزرق .
من جهته اليمين المتطرف المتمثل ب"الجبهة الوطنية" بزعامة مارين لوبان ابنة جان-ماري، حقق اختراقاً واضحاً رغم النفير العام لمكافحته وحماية فرنسا من عار الوقوع تحت حكم التطرف المهين لسمعتها في العالم . فبعد أن كان لهذه الجبهة ثمانون مستشاراً بلدياً أضحى لها اليوم ،1290 إضافة إلى إحدى عشرة مدينة جديدة . لقد فهمت مارين أين كان يخطئ والدها الذي كان يتبنى خطاباً مستفزاً على المستويين الوطني والمحلي . أما هي فركزت استراتيجيتها الانتخابية على الفصل ما بين الشأنين المحلي البلدي والوطني العام . في الشأن المحلي ركّزت على الشؤون الحياتية اليومية للمواطنين فقادت حملتها ضد الضرائب والفساد وفقدان الأمن وتراجع خدمات البلديات، وفي المستوى الوطني حافظت على خطاب معاد للوحدة الأوروبية وللمهاجرين العرب وللإيديولوجيات اليسارية .
الرئيس هولاند لم ينجح في الفصل ما بين الشأنين المحلي والوطني كما طالبه بعض رؤساء البلديات المشهود لهم بالكفاءة والشعبية، فدفع هؤلاء ثمن أخطاء الرئيس الذي وصلت شعبيته إلى أقل من عشرين في المئة، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الخامسة . أما رئيس وزرائه جان-مارك ايرولت فتقول استطلاعات الرأي إن واحداً وسبعين في المئة من الفرنسيين يطالبون برحيله، ولهذا السبب سارع هولاند الذي أعلن بعد الانتخابات "لقد وصلتني رسالة الفرنسيين" إلى التخلص منه وتكليف وزير الداخلية إيمانويل فالس تشكيل "حكومة مقاتلة" جديدة مصغرة .
في العام 2008 حقق الاشتراكيون فوزاً كاسحاً في الانتخابات البلدية لكنهم فشلوا في المحافظة عليه . كل الوعود التي تقدم بها هولاند في حملته الرئاسية بدت واهية، فلم يتحقق منها شيء، على العكس فالمشكلات تزداد تفاقماً على كل الصعد . لذلك لم يصوّت الناخبون ل"مرشحي هولاند" في البلديات بل صوتوا لخصومهم . المفارقة أن ما بناه هولاند في حياته دمره بنفسه بعدما وصل إلى الإليزيه . لقد قضى أكثر من عشر سنوات على رأس الحزب الاشتراكي، بين عامي 1997و،2008 فنجح في تكريس ظاهرة "الاشتراكية البلدية" المرتبطة تقليدياً بتاريخ الحزب الذي كان يراكم المكاسب على المستويات المحلية والاقليمية . ففي العام 2008 تمكن الحزب من انتزاع بلديتي باريس وليون الكبيرتين من اليمين، إضافة إلى 44 بلدية متوسطة جديدة ليصبح الأقوى محلياً لدرجة انتزاع رئاسة مجلس الشيوخ في العام 2011 . واليوم يبدو أكيداً أنه سيخسر هذه الرئاسة في انتخابات مجلس الشيوخ في سبتمبر/أيلول المقبل التي يمتلك لأجلها الحزب اليميني المعارض العدد الأكبر من الناخبين الكبار الناتجين عن فوزه في الانتخابات البلدية .
بعد هذا الزلزال الذي اجتاح الحزب الاشتراكي، واليسار الفرنسي بشكل عام، والذي ستكون له هزات ارتدادية عديدة على مستقبل الحزب والعلاقات في داخله ومع الخارج والجمهور وعلى الانتخابات الأوروبية والإقليمية المقبلة، فإن الحاجة باتت ملحة لعلاج بالصدمة . لكن ما فعله الرئيس هولاند هو مجرد القيام باجراء بات روتينياً هو الإطاحة برئيس الوزراء، كأنه هو المسؤول عن الفشل . صحيح أن رئيس الوزراء الجديد معروف بديناميته وحسمه ووضوح رؤيته وحبه للعمل والنجاح، لكنه معروف أيضاً بطموحه الرئاسي الذي لم يخبئه يوماً وبيمينيته فهو الأقرب إلى اليمين في الحزب الاشتراكي . لذلك يتوقع المراقبون أن تشهد العلاقات المستقبلية بين ماتينيون (رئاسة الوزراء) والإليزيه (رئاسة الجمهورية) اضطرابات ومشكلات لن تساهم البتة في مواجهة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية الحادة التي تعيشها فرنسا .

د . غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"