اليمن أمام حقبة جديدة

04:14 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي
جاء الإعلان الدستوري الذي نظمه الحوثيون الجمعة الماضي 6 فبراير/ شباط الجاري ليستكمل مسرحية ثورة شعبية، نفذها انقلابيون بالتواطؤ مع بعض الزعامات من وراء ظهر الشعب . ومع ذلك فقد حققت هذه المسرحية بعض النجاح في الإيهام بانتقال سلمي للسلطة . ويعزى هذا النجاح أساساً إلى احتضار الحياة السياسية في هذا البلد، وتقاعس القيادات الحزبية والسياسية في الدفاع عن الدولة ومؤسساتها وسيادة البلد، ووقوفها موقف المتفرج بصرف النظر عن النوايا . فالتوصيف هنا يتعلق بالشلل الإرادي الذي أصاب هذه القيادات، وجعل أصحابها يؤثرون السكون السلبي التام إزاء ما جرى ويجري أمامهم وكأنه حدث في بلد آخر لا في وطنهم .
والواضح أن الانقلابيين كانوا يدركون عجز القيادات الحزبية وارتهانها لمصالح ضيقة وحسابات فئوية وتنافس غير مبدئي ، فكان أن اندفعوا في الاستيلاء المتدرج على السلطة من دون أن يواجهوا برد فعل جدي، ومع هذا الموات السياسي فلعل الانقلابيين فوجئوا بأن ما يكسبونه ويحققونه اكبر بكثير مما توقعوه وانتظروه . لدرجة أصيب معها هؤلاء بارتباك وقد باتت الدولة بمرافقها ومؤسساتها ملك أيديهم بين عشية وضحاها .
وما ينطبق على القيادات الحزبية ينسحب على قيادة المؤسسات الحيوية التي سرعان ما تشظت بفعل الاختراق الذي سهر على تحقيقه بعض من تضرروا من مسار التغيير الذي شهده هذا البلد منذ أكثر من ثلاث سنوات . هذا الاختراق الذي تحْدُوه شهوة السلطة والعودة إليها معطوفاً على الفراغ السياسي والحزبي، هيأ لتسليم الدولة لقمة سائغة للانقلابيين .
ولعل الحدث اليمني المتوالي فصولاً يزيد في غرابته وشذوذه عن الانهيار الذي لحق بالدولة السوفييتية في مطلع تسعينات القرن الماضي . ففي ذلك البلد الكبير لم يتبخر الجيش الأحمر وبقية مرافق الدولة . الذي تبخر هناك هو الحزب الشيوعي الحاكم فقط . أما في اليمن فقد تبخر كل شيء أمام انقلابيين يزحفون بسيارات نصف نقل صغيرة ويحمل من عليها أسلحة خفيفة، وبهذا العتاد وهذه التجهيزات تم اقتحام وزارة الدفاع ومقر قيادة القوات المسلحة والقصر الرئاسي في صنعاء .
الآن يراد بما سمي إعلاناً دستورياً الإجهاز على ما تبقى من الشرعية الدستورية ومؤسسة الدولة بحل البرلمان المنتحب ، وتعيين مجلس بديل تكون فيه اليد الطولى لسلطة الأمر الواقع، وتنبثق عنه حكومة كفاءات ومجلس رئاسي على أن تدون الفترة الانتقالية لسنتين يعمل خلالها الانقلابيون على إعادة هيكلة وتشكيل القوات المسلحة والمؤسسات الأمنية بما يضمن سيطرة دائمة ومطلقة لهم . ولهذا انصبت الاعتراضات الدولية على حل البرلمان بما هو مجلس تمثيلي خارج سلطة الانقلابيين وسابق في انتخابه على سيطرتهم . ورغم هذه الاعتراضات التي تصدر في الخارج فإنه لا شيء يوحي بأن الجسم السياسي المحلي مرشح للإفاقة من غيبوبته المديدة، الأمر الذي يمكن الانقلابيين من فرض حل البرلمان بالقوة كما حملوا وزير الدفاع وربما شخصيات أخرى على حضور إعلانهم الدستوري بالقوة .
لقد ملأ الحوثيون الفراغ في هذا البلد على طريقتهم الانقلابية ووفق أجندتهم الاقليمية ، وحققوا نجاحاً سهلاً، والحياة السياسية في النهاية كما الطبيعة تكره الفراغ .
وإذ أدت شيخوخة الأحزاب والجمعيات السياسية/ الاجتماعية إلى هذه النتيجة الدراماتيكية، فلا شك أن عهداً جديداً سوف يحل في اليمن ومعه نمط جديد من سلطة عسكرية ذات تحالفات خارجية لن يكون ممكناً التستر طويلاً عليها . والذين تهاونوا وتقاعسوا في الدفاع عن وطنهم ودولتهم ، لن يستطيعوا العودة إلى المسرح السياسي من جديد، فهذا المسرح سوف يشغله لاعبون وفاعلون جدد يستفيدون من خبرات الراعي الإقليمي لهم، ومن وسائله في السيطرة والتمكين .
على أن صورة المشهد لا تكتمل إلا بالتأشير إلى قوى اجتماعية صاعدة شبابية في الأساس وقفت ضد الانقلاب من البداية وضد الخواء الذي تمثله الأحزاب المستقيلة من مهامها السياسية وواجباتها الوطنية . وكذلك ما تبقى من رموز عسكرية رفضت الانقلاب وعجزت من قبل عن التحرك بسبب تخبط قياداتها ، لكنها بعد التحول الذي حدث وابتلاع البلد فإنها ستجد طريقها لرفض الانقلاب وما ترتب عليه . كذلك الحال في القيادات القبلية الوطنية التي رفضت منذ البداية الامتثال للأمر الواقع الشاذ .
يضاف إلى ما تقدم الحراك الجنوبي الذي يملك أجندة تفترق عن أجندة الانقلابيين الذين يسعون للعودة إلى الوراء بإعادة حكم الإمامة الذي ثار عليه اليمنيون قبل 54 عاماً . ولعل التطورات المفصلية هذه تعيد ترتيب أجندة الجنوبيين بحيث يكون مصير اليمن كله موضع اهتمامهم وعلى رأس أجندتهم لا الاقتصار على مطالب انفصالية/ استقلالية . علماً بأن الجنوبيين يواجهون القاعدة التي تتمركز على أراضيهم بما يجعل مهمتهم مضاعفة بالتصدي للقاعدة وللحوثيين الذين يمثلون الوجه الآخر للقاعدة في مسعاهم الانقلابي وفي تهديدهم للوحدة الوطنية وللتعايش بين مختلف مكونات الشعب . ومن الملاحظ هنا الاستثمار السياسي الانتهازي المكشوف للانقلابيين الذين يزعمون انهم يستهدفون التكفيريين، فيما هم استهدفوا وما زالوا الدولة والإرادة الشعبية وحق الشعب في اختيار نظامه بملء إرادته .
لقد انتهت حقبة من تاريخ اليمن بكل ما لها وما عليها، والآن فإن اليمنيين يقفون على أعتاب حقبة جديدة مفعمة بالتحديات والمخاطر وفي اختلال ميزان القوى لمصلحة الانقلابيين بعد أن تم تسليمهم مفاتيح البلد، ومع الثقة بأن إرادة الشعب سوف تنتصر على السطوة المسلحة وعلى التدليس السياسي، فإن المرء لا يملك في هذه الظروف سوى الدعاء بأن يحمي الله اليمن واليمنيين من كل سوء .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"