اليمن.. سيرة مختصرة للدم

03:42 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسن العديني

لا حكمة في اليمن.. لاحكمة ولاعقل ولاكوابح. في اليمن طيش بطعم الدم ورعونة برائحة الموت، وقد ساد الظن أن اليمن الأوفر حظاً بين البلدان التي طاف فيها ما سمي «الربيع العربي»، لأن أهل السياسة فيها توافقوا على حوار يقودهم إلى كلمة سواء، ولأن الشباب من قبل رفضوا التصدي للرصاص بالرصاص، غير أن ما اعتبر حلماً وحكمة بدده الجنون، فالذين وضعوا توقيعاتهم على المبادرة الخليجية وعلى وثيقة الحوار الوطني لم يلبثوا أن غرقوا في حمأة الحرب حتى الآذان.
ولم يكن هذا جديداً ولا مفاجئاً، فمنذ أكثر من 20 سنة أحرقت حرب 1994 وثيقة العهد والاتفاق الموقعة في عمان، وقبلها حصل الاحتيال الأكبر على اتفاقية توحيد شطري البلاد، وقد بدت في ذلك الوقت كما لو أن الحكمة استيقظت ولمعت في ضباب الفوضى.
رأى العالم كله في الوحدة حدثاً خارقاً وفارقاً طوى ربع قرن من الصراع وضمد جراح حربين.
وعلى أي حال، فقد تبين أن التجربة اليمنية غير قابلة للنقل، لأن جوهرها يتلخص في عقد بين المكر بالسوء والنوايا الطيبة، ثم كانت الحرب والممارسات السابقة عليها واللاحقة بمثابة سكاكين مزقت شرايين كثيرة، وأحدثت شروخاً عميقة في النفوس، جعلت أشد الناس إيماناً بالوحدة أفجرهم في معاداتها.
هذه المرة كان الطيش مغلفاً بالحكمة، حاضراً في مؤتمر الحوار الوطني حيث الحوثيون يحرقون عمران ويدقون أبواب صنعاء ويجلسون على طاولة الحوار في الوقت نفسه، ويوم وقعت الأحزاب السياسية ما جرى تسويقه باعتباره اتفاقاً للسلم والشراكة في 21 سبتمبر/‏أيلول 2014 فإنما فعلت بعد ساعات من إكمال إحكام الحوثيين السيطرة على العاصمة، وفي خطابات زعيمهم عبد الملك، كما في تصريحات آخرين لم يكفوا عن اتهام خصومهم بالتنصل من الاتفاق من دون أن يسوقوا من الأدلة سوى متابعة الحرب واجتياح مدن ومناطق جديدة.
لقد تفاخر اليمنيون بالطابع السلمي لثورة فبراير/‏شباط 2011، وزادوا بالقول إنه يحدث في مجتمع مدجج بالسلاح، ومن جانب السلطات فقد تباهت بالسماحة والرفق بالمتظاهرين، رغم فيض الدم في الشوارع، ولم يكن هذا من باب الإنكار، ولا من زاوية تحميل المتظاهرين مسؤولية العنف؛ فضلاً عن أن يكون اتهاماً لطرف دخيل، لأن اليمنيين فهموه على نحو عكسي، كما هي العادة عندهم في تسمية الأشياء باضدادها من باب الأدب، أو على سبيل التهكم.
مع ذلك، لا غرابة في أن نسمع من معلقين أوصافاً من نوع «تعز الحالمة»، حين يكون الحديث عن الدمار والموت والمجاعة، غير أنه لا حكمة في اليمن توفر الأجواء للأفراد كي يحلقوا مع أحلامهم؛ فضلاً عن أن تحلم مدنهم، هناك في اليمن حكماء من غير شك، ولكن الغلبة للطيش والرعونة، لهذا فإن العنف كان أداة انتقال السلطة في أغلب محطات التاريخ باستثناءات لها ظروفها.
ومن النماذج فإن قادة نوفمبر/‏تشرين الثاني أظهروا جنوحاً سافراً للعنف لم يوفر الرجلين اللذين قادا الجمهوريين إلى النصر في حرب الأيام السبعين (نوفمبر/‏تشرين الثاني 67 - فبراير/‏شباط 68)، وقد جرى التمثيل بجثة الأول عبد الرقيب عبد الوهاب، رئيس أركان الجيش، ودكت المدفعية المبنى على الثاني أحمد عبد ربه العواضي في معتقله بسجن القلعة.
الحكمة تجلت ساطعة في ما فعله إبراهيم الحمدي، قائد حركة 13 يونيو/‏حزيران 1974 بتنظيم مراسيم وداع للرئيس عبد الرحمن الإرياني، أطلقت فيه المدفعية إحدى وعشرين طلقة، وقبل ذلك أضفى البيان الأول للحركة على الرئيس السابق هالة من المهابة والتكريم مرجعاً تولي المسؤولية من قبل ضباط الجيش إلى سوء الظروف واعتلال الأوضاع ولم يصادر وطنية الرجل، أو يبخسه دوره.
إن الحرب الحالية هي استمرار لتاريخ متصل تزيد إليه العوامل الخارجية في بيئة يتضافر فيها القائم والقادم، ويسوق لحرب طويلة مداها مجهول ونتائجها غير محسوبة، والأرجح أننا من بعدها لن نرى اليمن الذي نعرف أو اليمن الذي نريد، ذلك أنه لا حكمة في اليمن اليوم، ولم تكن في الأمس.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"