باباجان ومأزق الإسلام السياسي

03:54 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد نورالدين

يقدّم علي باباجان، وزير الخارجية التركي السابق، والذي كان لفترة طويلة مسؤولاً عن الملف الاقتصادي في بلاده، نموذجاً إضافياً على المأزق الذي تواجهه الحركة الإسلامية؛ بل الإسلام السياسي عموماً في تركيا وفي العالم الإسلامي، ومنه العالم العربي.
تشهد على مثل هذا المأزق التحولات التي شهدتها مؤخراً الحركة الإسلامية في تونس، ومأزق مقاربتها للسلطة في مجتمع متعدد الانتماءات السياسية. كما في عدم قدرتها على تطوير نفسها، وتقديم نموذج ديمقراطي داخلها.
فكان تراجعها الشعبي أحياناً، وحركات الانشقاق داخلها وآخرها خروج نائب رئيس الحركة عبد الحميد الجلاصي قبل أيام؛ احتجاجاً «على الانحراف الخطر في المسار الديمقراطي داخل الحركة» بقيادة راشد الغنوشي، فضلاً عن تلويح العديد من أعضاء مجلس الشورى بالاستقالة أيضاً في حال تأجيل المؤتمر ال11 للحركة المقرر في مايو/‏أيار المقبل.
وبعودتنا إلى تركيا فقد كانت الحركة الإسلامية منذ أن ظهر الإسلام السياسي في عام 1970 مع نجم الدين أربكان وصولاً إلى عام 2001 الذي شهد أول انقسام جدي داخل حزب الفضيلة الذي حظر حينها. والنتيجة انقسامه إلى حزبين: حزب السعادة بقيادة أربكان، وحزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان. وفي عام 2002 وصل الإسلام السياسي إلى السلطة للمرة الأولى بمفرده، ولا يزال فيها حتى الآن.
مع ذلك فقد كان حزب العدالة والتنمية يشهد من وقت لآخر خروج شخصيات منه مثل عبداللطيف شينير؛ لكنها لم تكن مؤثرة على وحدته. واستمر يحصد الانتصارات في الانتخابات المتتالية التي كانت تشهدها البلاد.
لكن يمكن اعتبار عام 2014 بداية ظهور نواة اختلافات داخلية أثرت في تماسكه اللاحق؛ إذ قبل نهاية ولاية عبدالله غول في رئاسة الجمهورية بيوم واحد انعقد مؤتمر للحزب حال دون عودة غول إليه وترؤسه، خصوصاً أنه كان من أبرز قادة الحزب في مرحلة التأسيس وبعد استلامه السلطة. وكان السبب الرئيسي لإبعاد غول عن قيادة الحزب؛ هو رغبة أردوغان في التفرد بالهيمنة على الحزب؛ والعمل على إقامة نظام رئاسي يختصر بشخصه الحياة السياسية والحزبية.
ومع حلول ربيع عام 2016 تكرر المشهد مع إجبار رئيس الحزب ورئيس الحكومة أحمد داود أوغلو على الاستقالة؛ لأنه كان معارضاً للنظام الرئاسي المقترح.
وبذلك كان الاستئثار الداخلي وحصر السلطة الحزبية بيد شخص واحد هو أردوغان أحد أهم الأسباب التي أدت إلى إخراج غول وداود أوغلو إضافة إلى آخرين من الحزب.
لكن استقالة علي باباجان في يونيو/‏حزيران 2019 كانت إشارة أخرى على الانشقاق الداخلي؛ لكنها الأهم لأن باباجان لم يكن يريد الاكتفاء بالاحتجاج على غياب الديمقراطية الداخلية في الحزب؛ بل نزع إلى التلويح برغبته في تأسيس حزب جديد.
وفيما هو يخطط لذلك خرجت مفاجأة أخرى وهو أن داود أوغلو نفسه أعد أيضاً لتأسيس حزب جديد أعلنه فعلاً في ديسمبر/‏كانون الأول 2019 وسماه «حزب المستقبل». وأطلق شعارات تعارض النظام الرئاسي، وتطالب بالعودة للنظام الديمقراطي البرلماني.
يوم الأربعاء الماضي، كانت تركيا على موعد مع إطلاق علي باباجان لحزب جديد؛ هو «حزب الديمقراطية والتقدم» أو (التطور). وقد رفع الحزب كذلك شعار الديمقراطية في اعتراض على نزعة الاستبداد، ليس فقط داخل حزب العدالة والتنمية؛ بل داخل تركيا نفسها التي تشهد منذ سنوات ولا سيما منذ محاولة الانقلاب في يوليو/‏تموز 2016 أوسع عمليات اعتقالات وكمّ أفواه تطال كل الفئات والتيارات السياسية والصحفية.
وبذلك، فإن الإسلام السياسي في تركيا شهد حتى الآن أكبر عملية انشقاقات في تاريخه الحديث وأصبحت أربعة أحزاب؛ هي: العدالة والتنمية؛ السعادة؛ المستقبل؛ الديمقراطية والتقدم. وعلى الرغم من أن الأحزاب الثلاثة الأخيرة ليست ذات وزن شعبي واسع؛ لكن أهميتها تكمن في أنها ستساهم في إضعاف حزب العدالة والتنمية وصورة رئيسه، وهو في الوقت نفسه رئيس الجمهورية، رجب طيب أردوغان. وأهمية حزب المستقبل وحزب الديمقراطية والتقدم أنهما خرجا من رحم حزب العدالة والتنمية، وبالتالي يفترض أنهما سيأكلان من قاعدته ويضعفانه شعبياً. وفيما لو نال الحزبان على الأقل بين 5 إلى 10 في المئة فقد تبدو كافية في المبدأ؛ لإسقاط حزب العدالة والتنمية من السلطة ورئيسه من رئاسة الجمهورية في انتخابات عام 2023 مع شرط إضافي وهو وحدة المعارضة، والتفافها حول مرشح واحد في مواجهة أردوغان المدعوم من قبل حزب الحركة القومية.
يؤكد تأسيس حزب الديمقراطية والتقدم، ومن قبله حزب المستقبل مأزق الديمقراطية داخل الحركة الإسلامية والإسلام السياسي في تركيا كما في العالم الإسلامي، وضرورة البحث عن خيارات تحترم الرأي الآخر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"