بالفعل نحن في المستقبل

02:53 صباحا
قراءة 3 دقائق
جميل مطر

يبدو أنه وبالرغم من كل ما قرأنا عن مستقبل الأمم والإمبراطوريات والأشياء لم يصل إلى علمنا أن المستقبل يمل الانتظار. ينتظر عاماً أو مرحلة أو جيلاً؛ ولكنه لن ينتظر إلى الأبد البشر ولا حتى القدر و«المكتوب» والمحفور على الحجر. نراه الآن يحط الرحال في أكثر من موقع. يفاجئ في بعض المواقع بشراً لم يتوقعوا وصوله، ويقابل في مواقع أخرى بشراً كانوا قد خرجوا منذ زمن؛ لاستقباله في منتصف الطريق. بعض هؤلاء قضوا في انتظاره الوقت، طال أم قصر، يذبحون له القرابين، ويمهدون الدروب ويتدربون على أنماط عمله ولغته وسد حاجاته.
لم أجد غير هذه الصورة؛ أصف بها هذا الكم الهائل من تطورات ومعلومات تدفقت خلال السنوات، وأكثرها خلال الشهور الأخيرة، وأغلبها إن لم يكن كلها يقع تحت عنوان صغته متسلياً قبل ربع قرن أو أكثر؛ لأجمع تحته ما استطعت من شواهد توحي بسقوط حلم نظام القيادة المنفردة، وحلول نظام دولي جديد، وبمعنى آخر أتابع من خلالها علامات بزوغ قوة عظمى جديدة، تفرض على الولايات المتحدة مشاركتها لها في قيادة العالم أو بكثير من الخيال تركلها فتنحيها جانباً، وتنفرد هي بالقيادة المنفردة، فيتخلق عالم القطب الواحد، الذي ظل حلماً لم تحققه أمريكا على الوجه المرجو. أذكر أننا، أنا وزملاء بتوجهات متباينة، توصلنا إلى أن الصين لن تستعجل خطوات صعودها المتدرج نحو قمة منفردة أو متعددة، وأن الولايات المتحدة لن تعترف بقدرة الصين على مواصلة الصعود؛ باعتبارها في النهاية وفي حكم نظريات الغرب دولة نامية بسقف منخفض. توصلنا إلى أن الصين لن تسعى إلى الانتقال من مرحلة التعاون والاعتماد المتبادل؛ ولكن الحذر مع الولايات المتحدة، القطب القائم، إلى مرحلة التنافس معها، وربما الصراع إن لا بد منه إلا بعد فترة، يحسن لمصلحة الصين أن تطول. بهذا المعنى، أو المعاني، لن يصل المستقبل في شكل نظام دولي جديد ويستقر قبل منتصف القرن.
أغلب الظن أن الصين لم تلتزم التدرج الذي تمنته واشنطن أو أنها التزمت؛ ولكن تراكم صعودها فاجأ الأمريكيين. أغلب الظن كذلك أن تخبط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط خلال الشهور الأخيرة كشف للصين وروسيا وحلفاء أمريكا في المنطقة وخصومها، عن عمق العوار في استراتيجيات الدفاع الأمريكية، وأنه كان وراء انحسار الخجل الصيني التقليدي إزاء الإقدام على العمل الدولي في الشرق الأوسط بكثافة وجرأة غير معهودتين.
قبل أيام زار «إسرائيل» وانج كيشان، الرجل الثاني ترتيباً وحقيقة في هيكل السلطة الحاكمة الصينية. سمعنا بعدها عن زيارة مفاجئة، قيل كالعادة إن الترتيب لها جرى من قبل، يقوم بها جون بولتون مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي. هنا أنا لا أبالغ حين أفصح عن اقتناع بأننا أمام دولتين تجاوزتا فجأة نمط صعودهما المتدرج ولكن الحصيف والمبرمج. خلاصة الأمر أننا عرفنا، مثل غيرنا، أن «إسرائيل» اكتشفت مؤخراً، أو قبل ذلك ولم نعلم به في حينه، أن الاعتماد الأسطوري «الإسرائيلي» على الولايات المتحدة لا يمكن أن يغطي وحده كافة احتياجات دولة كانت محاصرة بحكم موقعها وصراعاتها داخل موقع جغرافي محدد في إقليم لا تتمدد فيه.
أتصور أن جون بولتون يحمل ضغوطاً. أحدها منقول عن قادة في سلاح البحرية الأمريكية يعترض على احتمال أن تقوم الصين بتشييد ميناء حيفا. ترفض البحرية الأمريكية أن ترسو سفنها في موانئ تديرها منظومة تكنولوجية من تصميم وإدارة خبرة صينية مشبوهة في أنشطتها التجسسية.
قد لا يجرؤ بولتون على الرغم من ولاءاته الصهيونية المتطرفة أن يطلب من «إسرائيل» الامتناع عن قبول استثمارات طويلة الأجل من مبادرة الطريق والحزام تحت حجة كرر استخدامها في إفريقيا عن الهوية الاستعمارية الخفية لهذه المبادرة، ولكنه قد يستخدم حجة بديلة يجري استخدامها في أوروبا الغربية؛ لتحريض الدول الحليفة ضد مشروع خط غاز «نورد ستريم». تقول الحجة، إن أمريكا تخشى على أمن حلفائها إن اعتمدوا في حياتهم على مصدر روسي للطاقة. نلاحظ بهذه المناسبة أن «إسرائيل» تسعى بالحماسة نفسها لتحصل على اعتماد روسيا عليها في قطاع التكنولوجيا المتطورة، كما تسعى إلى ربط قطاعها التكنولوجي بالمصدر الصيني. هكذا، إن أفلحت «إسرائيل» في خططها الجديدة، تكون قد وضعت الأساس لشبكة تجمع أهم مصادر التقدم التكنولوجي في المستقبل الموجودة في الولايات المتحدة والهند والصين وروسيا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"