بين الضرورة والإكراه

05:13 صباحا
قراءة 4 دقائق

من بديهيات الأمور أن الدول تنطلق حينما تصدر تشريعاتها، أو تسن قوانينها، أو تضع سياساتها وإجراءاتها من تطلعات شعوبها، ومن قيمها المتوارثة . لكن هذه المسلّمات التي تمارسها البلدان عموماً قلمّا تثير ضجيجاً حينما يتصل الأمر بالبلدان المتقدمة، ولكنها تصبح موضع نقد وذم عندما يتعلق الأمر بالبلدان العربية، وبالذات الخليجية . فمن يرفعون عقيرتهم بالصراخ ينطلقون من معارضتهم لحقوق هذه البلدان في تنظيم حياتها من كونها لا تخضع لمقاييسهم أو لا تنسجم مع رؤاهم لما ينبغي أن يكون عليه أسلوب الحياة . وبهذا يجعلون من أسلوب حياتهم وطرق معيشتهم المثل الأعلى الذي ينبغي على الآخرين اتباعه وعدم الحيد عنه . وفي أحيان أخرى يخفي الحرص على حقوق الإنسان مصالح مادية ضيقة لبعض الفئات . وكثيرة هي الأمثلة على ذلك . وقد يكون في الضجة التي أثيرت حول حظر قطر المشروبات الكحولية في مجمع اللؤلؤة السكني مثال جديد على ذلك . فقد صاحبت هذا القرار معارضة من وسائل الإعلام الأجنبية والمحلية . فقد بدأت على الفور التوقعات والتكهنات، التي تنبأت بصعود نفوذ الإسلاميين في قطر، واتساع دوائر تأثيرهم . وبدأ المحللون يطلقون تفسيراتهم وتحليلاتهم لأسباب إصدار هذا القرار، الذي أرجعه البعض إلى أنه استجابة طبيعية لتصاعد الأحداث في مملكة البحرين، بينما حذر آخرون من عواقبه وتعقيداته التي ربما تعانيها قطر المضيفة لكأس العالم لكرة القدم في 2022 . ولكن هل من المعقول أن يكون لمثل قرار كهذا تأثيراته وتعقيداته التي ستلقي بظلالها على 12 عاماً في المستقبل؟

بعد قراءة كثير من المقالات الدرامية التي علقت على قرار الحظر، شعرت بأنه من الواجب لفت الانتباه إلى نقطة مهمة، وهي أن هذا المنع ليس شاملاً، بل يخص منطقة واحدة في الدولة ولن يؤثر في القانون الخاص المعمول به لتنظيم هذا الشأن . لكن السؤال المثير هناك هل أصبح مستغرباً اتخاذ دولة عربيه هذه الخطوة، أو إصدار قرار كهذا، وهي خاضعة لأحكام الشريعة الإسلامية؟ نعم، نعرف أن قطر تتبع نموذجاً معتدلاً لقواعد الشريعة مثل بعض جيرانها الخليجيين، ومع ذلك يبقى الدين هو الفاعل الأول .

لا يوجد في دول الخليج فصل بين الدين والدولة وفقاً لقواعد الإسلام، لذا تنتابني حيرة في تفسير وفهم التعليقات وردود الأفعال على مثل هذا القرار، خصوصاً أن أغلب التعليقات هذه الأيام تستخدم ورقة الدين كلما حانت الفرصة لذلك . فلا أحد من هؤلاء الذين بادروا إلى إصدار الأحكام والتوقعات كلف نفسه عناء البحث والسؤال عن السبب وراء إصدار القرار . ولم يتوقف أحدهم للتساؤل عن دوافع دولة معتدلة لإصدار هذا التقييد، مع الأخذ في الاعتبار تزايد عدد السكان من المغتربين .

إن اللؤلؤة مجمع سكني راقٍ، ارتفعت شكاوى المقيمين فيه من الضوضاء العالية، والأفعال المنافية للحشمة الخارجة عن التقاليد المرعيّة التي تحدث بسبب الإفراط في شرب الخمر . وارتبط هذا بزيادة عدد حوادث السيارات التي يرتكبها سائقون ثملون يقودون مركباتهم تحت تأثير الكحول، إضافة إلى زيادة المخاوف المجتمعية من انتشار ظاهرة إدمان الكحول .

نعم، إن معظم دول الخليج تعاني خللاً في التركيبة السكانية يشكل فيها الوافدون الشريحة الأكبر، لكن هذا لا يعني أن تغض الحكومات الطرف عن المخاوف المشروعة لشعوبها . وبإمكاننا القول إن التوقيت ليس مناسباً في هذه الفترة لإهمال رغبات الشعوب، آخذين في الاعتبار الأوضاع المكهربة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط . ومن غير المنصف أيضاً أن نتحدث نيابة عن المقيمين في قطر، ونفترض أن قراراً واحداً مثل هذا يمكن أن يغير حياتهم، ويؤثر في مستوياتهم المعيشية .

إن المقيمين الذين اختاروا دول الخليج أوطاناً ثانية لهم يحترمون قوانينها، والأغلبية العظمى منهم تلتزم بالقواعد والآداب المرعية في مجتمعاتها . إن دولاً خليجية أخرى تطبق منعاً وحظراً تاماً للخمور، فهل من العدل افتراض أن جميع المقيمين فيها يعيشون حياة محطمة، أو بائسة لمجرد عدم تمكنهم من الحصول على ذلك؟

على العكس تماماً، يتمتع الملايين بحرية ممارسة عقائدهم الدينية على اختلافها، وتعددها، وتقام الصلوات بالكنائس، إلى جوار المساجد من دون تفرقة . إن تناول الخمور يشبه تدخين السجائر تماماً، تمتد آثاره السلبية إلى الآخرين، ولا تقتصر عواقبها عند حدود مستخدميها، فكما يؤثر التدخين في الصحة، كذا تفعل الخمور، إضافة إلى مضارها على كافة مظاهر الحياة في المناطق التي تسمح بها . اتخذت قطر قرارها بناء على شكاوى متعددة، واضعة في الاعتبار أهمية الحفاظ على المجتمع المحلي . هذا المنع سيلقي بآثاره على الأعمال التي ستضار منه، بمعنى آخر أن المعارضة الرئيسة لهذا القرار صادرة عن أصحاب المطاعم الكبرى بمجمع اللؤلؤة، الذين فقدوا زبائنهم لمصلحة أماكن أخرى يمكنهم فيها تناول ما يرغبون . وهنا يثور مجدداً سؤال لا مفر منه، وهو: هل يمكن التضحية باستقرار المجتمع مقابل الحفاظ على مصالح أصحاب الأعمال؟ من الضروري أن ترحب البلدان بالمقيمين على أراضيها، وتحترم حرياتهم ولكن في الوقت نفسه يجب الحفاظ على النسيج الاجتماعي والأخلاقي لمجتمعاتها . إنه من السهل السقوط في حفرة من التعميمات التي تستند إلى الإسلام عند سماع مثل هذه القرارات تصدر عن دولة عربية، لكن من الأفضل دائماً الابتعاد عن هذه التعميمات لأنها نادراً ما تصل بنا إلى حقائق، بل وتسلب معظمنا الحس السليم عند تقييم الأمور .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"