تدخل محدود يكسر “الجمود”

04:15 صباحا
قراءة 4 دقائق
يعد التدخل العسكري الأمريكي ضد تنظيم داعش في شمال العراق التطور الأهم في الاداء العسكري للدولة العظمى في منطقتنا، منذ انسحاب قواتها من العراق مع نهاية 2011 . ومنذ استيلاء هذا التنظيم على الموصل في يوليو/تموز الماضي، فقد أبدى الأمريكيون قلقا تجاه ما يجري، وذلك لجهة ضعف اداء الجيش العراقي الذي اسهموا في بنائه وأمدّوه بالمعدات وبأموال عراقية بالطبع . ولخشيتهم من فراغ يسهل على داعش ملؤه كما برهنت غزوة الموصل . وقد عمدت واشنطن بعدئذ الى إيفاد مستشارين وخبراء عسكريين الى بغداد، رداً على تصاعد تهديدات هذا التنظيم باقتحام العاصمة .
التدخل العسكري هذه المرة جاء بعد سلسلة مشاورات مكثفة أدارها البيت الابيض مع البنتاغون على مدى أسابيع . وقد وقع التدخل هذه المرة ابتداء من مساء الخميس 7 اغسطس/آب، في ضوء عوامل معلنة تتمثل في اقتراب قوات داعش من اربيل عاصمة اقليم كردستان، ثم في ضوء الاستغاثات المتزايدة من العراقيين اليزيديين المهددين بالإبادة، وكذلك في ضوء ما تعرض له عراقيون مسيحيون من تهجير مشين من بيوتهم في الموصل، والاستيلاء على ممتلكاتهم . يضاف الى ما تقدم وجود خبراء ومستشارين عسكريين أميركيين في اقليم كردستان . وما تحدث عنه الوزير العراقي/الكردي هوشيار زيباري عن "خطر وجودي" بات الإقليم يتعرض له من داعش . والبادي أن قيادة الإقليم ممثلة بمسعود البارزاني قد ركزت جهودها في الأسابيع الماضية على الضغط على المالكي للتنحي وقطعت العلاقات معه، وذلك جنباً الى جنب مع المساعي الكردية لتأمين اختيار رئيس كردي للعراق، وهو ما تم باختيار فؤاد معصوم، من دون إيلاء تمدد داعش ما يستحقه من أولوية . حتى أخذ هذا التنظيم يدق أبواب اربيل، التي كانت لأسابيع قليلة خلت تطلق بصورة علنية مطامحها للاستقلال، فإذا بالخطر يجيئها من حيث لا تحتسب، وكذلك من حيث تصور بعض الزعماء الأكراد ان ظهور داعش وإضغاف الحكومة المركزية في بغداد الضعيفة أصلاً، يتيح الفرصة للتسريع باستقلال واقعي .
يضاف إلى ما تقدم ان التدخل الأمريكي جاء في اعقاب تمدد "داعش" وأطراف أصولية أخرى نحو بلدة عرسال اللبنانية على الحدود مع سورية . وعلى نحو ظهر فيه هذا التنظيم بأنه يتمتع بقوة تمكنّه من الانتشار في العراق وسورية ولبنان في وقت واحد .
واذ يتحدث ناطقون أمريكيون بأن تدخلهم قد تم هذه المرة بناء على طلب من الحكومة العراقية، فواقع الحال والتوقيت يثبتان أن التدخل قد جرى بموجب طلب من حكومة كردستان التي استشعرت متأخرة حجم خطر "داعش" الذي يهدد إلاقليم واستنجدت بواشنطن التي كانت قد اعدت الخطط لتدخل غير بري، يقتصر على طائرات بدون طيار وقاذفات، جوية والهدف هو- ويا للمفارقة- تدمير معدات أميركية استولى عليها التنظيم في الموصل بدون قتال . وهكذا جاء التدخل بغطاء وحماية أمريكيين يعملون في بغداد وأربيل، مع التأكيدات المتكررة من أوباما بأن تدخلاً أمريكياً على الأرض العراقية لن يقع .
مع ذلك فإن هذا التطور على جانب من الأهمية، إذ يبُث رسالة الى داعش بأن تمدد هذا التنظيم سوف يلقى رداً دولياً (فرنسا على لسان هولاند أعربت عن استعدادها للمساهمة في الحملة الجوية، وبريطانيا ابدت تأييدا للخطوة الأمريكية) . وأن القوى المحلية في العراق لن تكون الوحيدة التي سوف تنبري للتصدي له . وخلافاً لأي تدخل آخر، فإن هذا التدخل المحدود حتى تاريخه يلقى قبولاً من سائر الأطراف الإقليمية والدولية، وكذلك من غالبية الأطراف المحلية العراقية، فالجميع يتبرأون من هذا التنظيم . ومعنى ذلك أن التدخل يتم في ظرف سياسي مؤاتٍ، بل يبدو استجابة لمطالب غير معلنة لأطراف عديدة تستشعر خطر هذا التنظيم الذي لا يتوقف عند حد، ولا يعترف بالدول والكيانات والمجتمعات، ولا يعبأ بنواميس الصراعات وضوابطها، ويبدي عداء مطلقا لكل من يختلف معه أيديولوجياً .
ولنا ان نستذكر بان هذا التنظيم نشأ في العراق في عام ،2004 ورغم اشتداد الحملات الأمريكية منذ ذلك التاريخ فإنه حافظ على وجوده واستمراره متذرعا بمقاومة الاحتلال، ومستفيدا من أخطاء الحكومات المتعاقبة وبالأخص حكومة المالكي في إقامة حكومة وطنية جامعة .
فيما يبرز دور الطرف الكردي عاملاً اسهم في ترجيح وقوع التدخل العسكري الأمريكي المحدود الذي كسر الجمود . فمنذ الاجتياح الأميركي للعراق في عام 2003 تمتع اقليم كردستان العراق بحماية أمريكية وغربية، فيما أيدت قيادة الإقليم إسقاط النظام العراقي السابق على أيدي القوات الأمريكية . واحتفظت قيادة الاقليم على الدوام بعلاقات وثيقة مع واشنطن والغرب، ومنحتها أولوية شبه مطلقة . وتزداد التوقعات بجولات كر وفر بين البيشمركة وداعش بعد ظهور هذا التطور، علماً بأنه من السابق لأوانه التكهن بحجم الأضرار التي ستلحق بهذا التنظيم نتيجة الضربات الجوية، وفي جميع الأحوال فإن رؤية نتائج ملموسة مرهونة بمدى كثافة الضربات وبنجاة الطرف المهاجم من تحمل خسائر جسيمة، وبالالتزام ببقاء المدى الزمني مفتوحا لتوجيه هذه الضربات، إضافة إلى مدى ثبات التوافق الداخلي السياسي على مشروعيتها، التي وان كانت تتم من طرف خارجي حقاً، فهي تستهدف تنظيماً لا يعترف بهوية وطنية له، ويضم خليطاً من جنسيات استباحت البلاد والعباد .

محمود الريماوي
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"