تريم عمران والعمل السياسي في مسيرة الدولة

05:43 صباحا
قراءة 5 دقائق

هناك أشخاص يرحلون عن الدنيا بالفناء الجسدي، أي أن المتعايشين الأحياء لا يرون الراحلين، كما قد كانوا عليه وهم أحياء، بمرأى العين، ولكن هؤلاء الأشخاص يظلون مجسدين معنوياً في الأذهان، ليس أذهان من عرفهم من الناس واحتكوا بهم وحدهم، بل أذهان الآخرين الكثيرين ممن لم يكونوا على معرفة بهم عن كثب، ولكنهم عرفوا الراحلين عن طريق الصيت، وما تركوه من اسم طيب ومن سمعة حسنة ومآثر حية تتجدد في كل مناسبة، وعندي أن هذا الوجود المعنوي أهم وأكبر وأكثر جلالاً من الوجود الجسدي أو العضوي. فالوجود الجسدي أو العضوي إذا لم يكن مقروناً بالوجود المعنوي، أي التأثير في الحياة والتأثر بها عن طريق التفاعل بالمحيط الذي يتعايش معه، وإثارة الإحساس في النفوس بمثل هذا التفاعل، فإن هذا الوجود، الوجود العضوي، يصبح كعدمه، ليس له في بقائه أو رحيله قيمة، وكم من الناس جاؤوا وذهبوا ولم يحس بهم أحد، كما يقول شوقي:

بين الأنام أناس لا نحس بهم

كأنهم من هوان الخطب ما وجدوا

وفي الإمارات كما في غيرها من المجتمعات هناك أناس رحلوا عنا بأجسادهم ولكنهم تركوا قيمتهم المعنوية، وتركوا بصماتهم على حياتنا العامة بالمساهمة في حركة التعايش مع الوقت وتنشيط هذه الحركة في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية، بحيث يحس المجتمع أن حركتهم موازية لما يجري حوله في محيطه الجغرافي وخارج هذا المحيط.

ولو ذكرنا شخصيتين رحلتا عنا في فترات متقاربة وخلال العقد الأخير من السنين، وهما تريم عمران وسلطان العويس، كنموذجين لشخصيتين ثقافيتين أهليتين واجتماعيتين، كان لوجودهما تأثير معنوي كبير، لكان بذكرهما وحدهما نعطي مثلاً حياً على ما للوجود المعنوي من قيمة جليلة في بقاء الذكرى الحسنة الموصولة على الدوام.

ولعل تريم عمران يتميز عن أقرانه بعاملين أساسين، كانا يستحوذان على تفكيره ومنهجه في درب سيره، وهما العامل الإعلامي والعامل السياسي، وهذان العاملان، وإن كانا متقاربين غير متباعدين مهنيا، لكن امتهانهما معاً وجمعهما في شخص واحد يجعله ذا مقدرة وكفاءة على الأداء بشكل غير عادي. وكان تريم رحمه الله على هذه الشاكلة، شاكلة الإعلامي الجيد والسياسي الجيد الذي يقوم بمهمته في الناحيتين خير قيام، ويترك حوله أثراً ملموساً لمن يريد أن يحتذي به ويسير على منواله.

بدأ تريم بطرح نهجه السياسي عن طريق التنظير ومشاركة الآخرين وهو في مقتبل العمر، في الستينات من القرن الماضي وهو في مرحلة الدراسة الثانوية ثم الجامعية. هذه الفترة، كانت في حياة تريم عمران فترة خوض التجارب، وكان الهيجان السياسي في العالم العربي على أشده، وكان تريم أحد من تأثر بهذا الهيجان الذي كان منبعه القوميون العرب والبعثيون ودعاة الاشتراكية ومن لفّ لف هؤلاء الذين كانت لهم الصولة والجولة. وكانت الناس، كل الناس، تقريباً تتأثر بما كان يطرح في الساحة من أفكار، وأكثرية الناس في تلك الفترة كانت قليلة المعرفة والخبرة بالتكتيك الإعلامي الذي كان يجعل من الصغير كبيراً كالجبل، ومن الجبل الكبير صغيراً، أو من الهزيمة نصراً ومن النصر هزيمة. ولم يكن تريم عمران غير ذلك الشاب المتأثر بما يسمعه، ويسبح في فضاء الأماني ليرى بلده والبلدان العربية تتطلع إلى التحرر من سيطرة الأجنبي وطغيانه، فكانت محاولة إصدار النشرة السياسية التي تكاد تكون أول نشرة سياسية أهلية في تاريخ الإمارات، وهي الشروق، وتطبع في الكويت لعدم وجود مطابع في الإمارات تستطيع إصدار مثل هذه النشرات، وبرز تريم صحفياً سياسياً وكاتباً محللاً للأحداث التي كانت تجري على الساحة في الإمارات أثناء الإرهاصات التي سبقت قيام دولة الاتحاد، ثم المخاض لولادة دولة الإمارات العربية المتحدة خلال الأعوام الثلاثة التي سبقت قيام الدولة من 1968 وحتى ،1971 وبمشاركة تريم في اللجان والاجتماعات المختلفة التي كانت نشطة أثناء هذه الفترة، مشاركة فعالة، اكتسب تريم خبرة سياسية كبيرة، وبدأت أمامه ملامح الهوات السياسية المتضاربة، واستطاع في هذه الفترة أن يكتسب ملكة التحليل والتمييز الأكثر عمقاً بين مختلف الاتجاهات السياسية السائدة حينذاك، ويصبح اتجاهه السياسي أكثر نضجاً.

وبقيام الدولة، تهيأ لتريم منصب سياسي مهم، وهو أن يكون مندوباً للإمارات لدى الجامعة العربية وسفيراً للدولة لدى جمهورية مصر، وهنا اكتسب تريم المزيد من الخبرة والمزيد من التجارب، إذ احتك في مصر خلال أكثر من أربع سنوات بالعديد من الاتجاهات الفكرية، وبدأت مصر تخرج من ثوبها التقليدي كزعيمة للعالم العربي، إلى الانفرادية بالصلح مع إسرائيل، مما أثار جدلاً واسعاً ما زال صداه يسمع أحياناً هنا وهناك، وكان تريم بطبعه الاجتماعي وحبه للناس، استطاع أن يوجد بينه وبين العديد من نخبة المثقفين والمقيمين السياسيين في مصر اتصالاً واحتكاكاً، وكانت سفارة الإمارات، وكذا منزله الملاصق للسفارة في منطقة الجيزة بالقاهرة، ملتقى لكثيرين من المقيمين ومن طلبة الإمارات وزوار مصر في ذلك الوقت، وكانت هذه الإقامة في مصر، رافداً استقى منه تريم معارف جعلت منه سياسياً بارزاً على الصعيد العربي وذا دراية عميقة بما كان يجري في الساحتين العربية والدولية.

وفي عام ،1976 كان تريم أبرز المرشحين لتولي منصب رئيس المجلس الاتحادي، وكانت الانظار تتجه إليه باعتباره أكثر الاشخاص لياقة لهذا المنصب، وعندما جرى الانتخاب في المجلس للرئاسة كانت الأصوات مجمعة على اختياره، وأصبح تريم رحمه الله ثاني رئيس للمجلس الوطني بعد رئيسه الأول المرحوم ثاني بن عبدالله بوقفل، وبتولي تريم رئاسة المجلس، حدث تغيير شامل في النمطية التي كان المجلس يتبعها، وبقراءة للأحداث، نجد أن المجلس في عهد تريم كان أحد أنشط المجالس النيابية في منطقة الشرق الأوسط وأكثرها حيوية(*)، ولعل المذكرة المشتركة التي قدمها المجلس الوطني بالاشتراك مع الحكومة إلى المجلس الأعلى نموذج لنشاط لم يعهده أي مجلس نيابي في المنطقة، وكان تريم رحمه الله مهندس هذه المذكرة ومعدها الأساسي والمروج لها.

وفي رأيي أن المجلس الوطني لو استمر على النمط الذي أوجده تريم عمران وأراد له أن يكون عليه، لما تراجع إلى الخلف بعد أن تركه تريم، ولكان المجلس اليوم أهم مؤسسة في دولة الإمارات وفي المنطقة الخليجية، ولكان له شأن غير عادي في تركيبته وفي قوته. والحديث عن تريم لا يقف عند ناحية معينة من حياته التي رغم قصرها، وغيابه المفاجئ وهو في قمة العطاء، يكفي تريم نموذجاً عالي العطاء الفكري لبلده، وهو تأسيسه لإحدى أكبر دور نشر في المنطقة العربية وهي دار الخليج وجريدة الخليج المعروفة.

(*) راجع مقالات الكاتب عن تريم عمران وكتابه لمحات من حياة تريم عمران

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"