تسيّب وفوضى وقانون دولي غائب

03:44 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

في غضون الأيام القليلة الماضية، سمعت أو لعلني قرأت رأياً في مجال التعليق على تعدد مظاهر التسيب والاستهتار في العلاقات الدولية المعاصرة، توقفت عنده طويلاً. خلاصة الرأي، أن العالم صار بحاجة ماسة إلى مزيد من العنف. صاحب هذا الرأي لعله ضمن تيار فكري يعتقد أفراده أن البشرية تعيش مرحلة هي الأقل عنفاً في تاريخها الطويل، وأن هذا الميل المتدني لعدم استخدام العنف، ربما يقف وراء معظم مظاهر التسيب والاستهتار، التي باتت تعكر صفو الإنسان وسعادته، وتهدد علاقات الدول مع بعضها. لست من أعضاء هذا التيار، ولست من أنصاره.
أعرف العنف حين أراه.. رأيته خلال حياتي في صور شتى، رأيته في حرب عالمية، وحروب إقليمية عديدة، وحروب أهلية لا أذكر عددها، وحروب بالوكالة تمارسها دول عظمى وصغرى وأشباه دول. جربوه في الشارع تحت بيتي، وفي الميدان بقلب مدينتي، عرفته يطل من عيون آلاف الأطفال في عشوائيات معظم المدن التي زرتها، وأعلم علم اليقين أن الخوف منه يسكن قلوب ملايين النساء. خوف من رجال أخذوا على عاتقهم منذ فجر البشرية مسؤولية قمعهن، والتفنن في وسائل إخضاعهن.
أتفهم حجة أصحاب الدعوة إلى زيادة العنف؛ لوقف التسيب والفوضى، أتفهمها إذا جاءت في إطار منظومة قانونية. العدالة مثلاً شرط لا غنى عنه لنجاح هدف زيادة العنف؛ للقضاء على جرائم المجتمع؛ كالفساد والجريمة المنظمة. الشفافية شرط آخر.
المشكلة التي اهتم بطرحها هنا هي المتعلقة بحال تسيب رهيب في احترام قواعد التنظيم الدولي، وفوضى زاحفة في كل أرجاء المجتمع الدولي يهددان معظم مؤسساته. حال خرق متفاقم لعديد مبادئ وأخلاقيات التعايش بين الدول. لم أتفق يوماً ولا أتفق الآن مع الزعم السائد بأن معظم ما يجري بين الدول لا يهم بالضرورة المواطن العادي في دولة أو أخرى.
أكتب هذا وفي ذهني تحديداً محاولة لفهم العلاقة بين الطبيعة الراهنة لعدد معتبر من أنظمة حكم غير خاضعة للقانون أو غير ملتزمة بمبادئ الديمقراطية في معظم أنحاء الشرق، وأيضاً في الغرب والمثال الأبرز يشرحه بكل الوضوح الممكن، السلوك السياسي للرئيس ترامب، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى الحال الراهنة لوضع دولي يتفاقم فيه التسيب، وتكثر في أشتاته متعمقة مظاهر الفوضى.
لجأت إلى أستاذ جليل من أساتذة القانون الدولي أسأله السبيل إلى وقف التسيب، ووضع حد للفوضى الضاربة أطنابها في كل القارات. تحدثنا مطولاً عن حال العالم، سمعته يستخدم تعبيراً تحاشيت استخدامه في كل ما كتبت عن حال التردي التي تدنت إليها العلاقات بين الدول وبين البشر. وصف سلوكات بعض الدول وهي كثيرة ب«الفجور». جاء وصفه هذا قبل أن أعرض لحال العلاقات الدولية الراهنة، ضارباً المثل بعدد مختار من الأزمات؛ مثلاً: استخدم الرئيس دونالد ترامب سلاح المقاطعة الاقتصادية، كما لم يستخدمه رئيس أمريكي من قبل. استخدمه في فنزويلا؛ ليفرض إرادة الولايات المتحدة قبل أن تتوافر أي شروط تشجع على التدخل القانوني في شؤونها.
أنشب حروباً تجارية ضد حلفاء أمريكا في أوروبا ثم تراجع مؤقتاً أو قليلاً؛ ليركز على حربه مع الصين. انقلب على اتفاقات دولية عديدة وقعها أسلافه، خاصة تلك التي وقعها الرئيس السابق باراك أوباما. لا أحد يخفي اقتناعه بأن ترامب في كثير مما فعل كان يشبع مقتاً شخصياً أو مصلحة خاصة أو يرد جميلاً. ومع ذلك لا يمكن إنكار حقيقة أن ترامب ركب موجة الشعوبيات القومية أو دعمها أو أسهم في إطلاق عقالها ليس فقط في أوروبا، ولكن أيضاً في إيران والصين والهند وروسيا. هكذا تعقدت علاقات كانت في الأصل ذات حساسيات خاصة، وهكذا تعمق القلق وعدم الاستقرار. هكذا أيضاً يتهدد سلام العالم على حطام اتفاقات ومؤسسات وأعراف دولية.
دعونا نضيف بعض ما أوجعنا كشعوب عربية. إن ما فعله ترامب بفلسطين يتدنى إلى مستوى غير إنساني. كان للفلسطينيين في القانون الدولي سند وأمل حتى بعد أن تقطعت بهم سبل العرب أو كادت. امتدت إليهما يد ترامب وأيادي مجموعة من مقاولين أشرار أحاطوا بالمقاول الأكبر، اشتركوا مجتمعين في قطع أي صلة رحم بين القانون الدولي وشعب فلسطين. كان للرئيس الأمريكي وجماعته الأمريكية محطات بدأت بالتخلي عن «حل الدولتين»، أعقبه قرار القدس عاصمة أبدية ل«إسرائيل» ثم وقف تمويل وكالة غوث اللاجئين وسحب صفة التمثيل لفلسطين في واشنطن، وابتزاز وتهديد النخبة الفلسطينية الحاكمة والاعتراف بالجولان هضبة «إسرائيلية». أغلبها محطات كان الظن أو الأمل أنها محصنة بالقانون الدولي ضد التسيب والفلتان والمقت الشخصي ومصالح الفساد.
ترامب واجه القانون الدولي، وبفضله وبفضل تطورات أخرى يعيش العالم أياماً كأيام عاشها قبل أربعمئة عام، أي قبل نشوب حروب الثلاثين عاماً. أملنا أن ينهض رجال ونساء القانون الدولي في انتفاضة تسعى لإنقاذه من براثن حكام مغامرين قرروا أن يعودوا بالبشرية إلى ما قبل اتفاقات ويستفاليا. أملنا أن ينهض حراس القانون الدولي والعاملون في محرابه بالأمم المتحدة وأجهزتها المنتشرة عبر العالم خاصة في محكمة العدل الدولية وفي كل منظمة إقليمية تدعو في ميثاقها إلى الالتزام بقواعد ومبادئ السلم الدولي والتعاون العالمي والإقليمي واحترام سيادة الدول.
أملنا أن ينهض كل هؤلاء ويرفعون الصوت العالي والمخلص؛ احتجاجاً على دول تخون العهود وتتنكر لمواثيق وقعت عليها، ودول تحرمهم حقهم في أداء وظائفهم على خير وجه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"