تشابك الاقتصاد الوهمي بالحقيقي (2/2)

02:32 صباحا
قراءة 3 دقائق

عندما اندلعت الازمة المالية عامي 1997 و،1998 في الدول الصناعية الجديدة (النمور الآسيوية)، قال الكاذبون إنها ازمة بلدان ليست متطورة بعد، ولم تتوصل كفاية الى الاصول الغربية في ادارة الاقتصاد، فما زال فيها شيء من البربرية التي أدّت الى سوء الإدارة .

وقتها طمأن الخبراء الاجلاء أن مثل هذه الازمة لن تحدث في الدول المتقدمة حضارياً . لكن جرس الانذار دقّ عامي 2002 و2003 في قلعة الحضارة الاقتصادية حين أفلست شركتي أنرون ووورلد كوم، وقالوا حينذاك إنهم اتخذوا كل الاجراءات الكفيلة بالشفافية والمراقبة والضوابط . وللمزيد من الطمأنينة صدر في الولايات المتحدة قانون 2002 سابرينس أوكسلي للتشديد في مراقبة المحاسبات وصدر في فرنسا تقرير أعدّه دانيال بوتون بتكليف من حكومة رافاران، وتبنّى الاتحاد الاوروبي التوصيات التي يفترض أن تعزز الشفافية والمراقبة والضوابط وسار كل شيء على ما يرام .

فهذا الشيء ما زال يسير على ما يرام إنما مثل ما كان، لصالح حرية الرأسمال وحرية الاسواق، فانهيار كبرى الشركات مثل بيل سترن وميريل لينش، وأهمها ليمان براذرز، لن يغير كثيراً، في ما كانت عليه سياسات الحكومات الصناعية حول ما تسميه شفافية ومراقبة وضوابط الى غير ذلك . فالامر أعمق من ذلك، وهو تحديداً في أزمة النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليس فقط في ازمة في الادارة المالية وضوابطها .

حتى نهاية السبعينات، كانت تلك النظم في الدول الصناعية ترتكز على دور الدولة في اعاقة حرية الرأسمال الكبير، لصالح القطاع الخاص الصغير وحقوق العاملين والاجراء، فكانت بنوك الادخار هي الموكلة في تأمين قروض العقار والسكن (على سبيل المثال) . لكن هذه الركيزة في داخل البلدان الصناعية (الوفاق الاجتماعي)، دفعت الدولة للتعويض عن اعاقة حرية الرأسمال الكبير في مجتمعاتها، الى اطلاق حريته في الاسواق الخارجية، والى دعمه وحمايته بالسياسة والاقتصاد والحرب والثقافة . . فكانت الدول الصناعية تمشي على قدمين واحدة داخلية واخرى خارجية مناقضة لمنهج الوفاق الاجتماعي والديمقراطية في الداخل . لكن هذه الآلية لا تعمّر الى ابد الآبدين . نهض بعض المنافسين الجدد في الاسواق الخارجية، والأهم أن تراكم الرأسمال انتج كتلة مالية هائلة، لا يتوفر لها اسواق طبيعية، وكادت في العام 1982 أن تهدد بتضخم مفرط، بل خطر، قبل أن تأتي النيوليبرالية وتكشف اللثام عن اعادة توظيف الكتلة المالية في ثلاثة مستويات:

توظيف المال بالمال النقدي (البورصات والاسهم) لجني الربح الاقصى، وتوظيفه بالخدمات الاجتماعية التي كان يقوم عليها دور الدولة، إنما بعد تحريرها وتوفير كل السبل أمام الرأسمال الكبير للربح الاقصى (الخصخصة الشاملة، تحويل الخدمات الى سلعة في السوق . . .)، وتوظيفه في العدّة التي تمهّد له الاستثمار المربح (اعلام، اعلان، اتصالات، مراكز ابحاث . . . إنما أيضاً الحرب والعسكرة) .

نجخ النيوليبراليون بتوظيف فائض الكتلة المالية، في البورصات والاسهم (كازينو المقامرة)، لكن نجاحهم أدّى كما كان متوقعاً، الى انفجار الازمة . وبحمد الله لم ينجحوا كفاية في السيطرة على الخدمات الاجتماعية، عدا بعض الخروق المؤثرة في البلدان الصناعية والعالم الثالث . كما أنهم لم ينجحوا، حمداً لله، في استثمار عائدات توظيف الرأسمال المالي في الحروب، بل انقلب عليهم . ولو نجح النيوليبراليون في هذين المستويين لكانت الكوارث الاجتماعية والبشرية والبيئية أشدّ هولاً وأعظم . فالكرة عادت اليوم اليهم ومن الممكن أن ينجح المنقذون الجدد في تسييل الديون الملوّثة، على حساب الثروة العامة والمداخيل الحقيقية للأجراء والمنتجين . ولا ريب في أن الفاسدين نجحوا في تحويل فسادهم الى أزمة عامة عادت عليهم بالفائدة . وقد ينجح المسؤولون والسياسيون في زرع وهم التغيير بعبارات الشفافية والمراقبة، الى حين . لكن النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية المولّدة للازمات ما زالت كاملة، تنذر بانفجارات اخرى في الجسم الحي للاقتصاد والناس والطبيعة .

ويسعى المنقذون الجدد الى اغراق بقية العالم وصب الثروات الكونية في جيوبهم، كما سعى الفاسدون الى اغراق الثروات العامة والاقتصاد الحقيقي، في تسييل شركاتهم الملوثة . يقولون إن هذا الخيار ذو فائدة عامة تعود بالخير على الجميع، وقد أخذوا العبرة من هول الازمة . انهم يكذبون!

فهذا الخيار ليس قدراً، والبدائل، خصوصاً أمام العالم العربي، متوفرة ومتاحة، وهي في اختيار نموذج من اثنين: إما النموذج الآسيوي بالشراكة بين الدولة والرأسمال الكبير والقطاع الخاص الصغير، وإما النموذج الجديد في امريكا الجنوبية بالاندماج الاقليمي . ولّت المراهنة على الفقاعات المالية والمقامرة بتبديد الثروات، وحبل الكذب، قصير .

* باحث في البدائل

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"