ساركوزي في دمشق والحراك في المواقع الساخنة

03:58 صباحا
قراءة 5 دقائق

يصل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى العاصمة السورية، بناء على اتفاق مسبق لتبادل الزيارات، جرى أثناء التحضير لقمة الاتحاد من أجل المتوسط في باريس، قبل شهرين. ويبدو أن سوريا لم تؤثر في حليفها الإيراني، في الملف النووي، كما راهن الرئيس الفرنسي، بل وطدت تحالفها مع إيران، وعقدت صفقة سلاح، كما فتحت موانئها للأسطول الروسي بعد أحداث جورجيا، وفي الملفات الأخرى، لم تتغير سياساتها كما تشتهي باريس، إذن ما الذي يدفع ساركوزي إلى العجلة في فك عزلة سوريا، على ما يتهمه خصومه وحلفاؤه، وما مراهناته في دمشق؟

إثر انتخابه رئيساً، جمع ساركوزي في مؤتمر السفراء، الدبلوماسية الفرنسية، وفاجأها بتصعيد الخطاب الفرنسي ضد سوريا، وضد روسيا، على حين غرّة. وكان من المفترض، على ما جرت العادة في أول مؤتمر للسفراء إثر انتخاب رئيس جديد، أن تستمر هذه السياسة التصعيدية، طيلة حكم ساركوزي. تبنّى الرئيس الشروط الأمريكية تجاه سوريا، وصعّدها بشرح أحجمت عنه الإدارة الأمريكية، حفاظاً على البروتوكول في الخطاب السياسي. ولم يطلب ساركوزي تغيير سلوك النظام السوري، كما درجت الإدارة الأمريكية، إنما طلب مشاركة سوريا في محاربة الإرهاب وكذلك الانضمام إلى عملية السلام، ثم الضغط على حلفائها في لبنان، وفي هذه الطلبات المباشرة، لهجة أكثر حدَّة من الشروط الأمريكية، التي كانت تكتفي بطلب عدم التدخل في الشؤون اللبنانية وكادت ان تُشعل حرباً لإسقاط النظام في سوريا.

كان الرئيس الفرنسي واثقاً من نفسه، فهو يتباهى على الدوام بجرأته وحدّة خطابه، في الوصول إلى تقدّم ملموس على الأرض، ويعتبر هذا الأسلوب فلسفة ناجحة في مخاطبة الجاحدين، ولم يغيّر خطابه، خلال الأشهر الأولى من ممارسة صلاحياته، إنما غيّر سلوكه، وأظهر عدم خوفه من قول الحقيقة في وجه خصومه، فأرسل مبعوثيه إلى سوريا لحل الأزمة اللبنانية، ولم ينجح كبير المبعوثين، كوسران، في دمشق، في بناء جسور، كان خطاب وزير الخارجية الفرنسية، برنار كوشنير، يهدّمها في بيروت.

تذكّر هنري غينو، وهو يحاول تقليد أندريه مارلو في التفلسف، قول شارل ديغول: إذا أردت ان تنجح في الشرق المعقد، عليك أن تذهب إليه بأفكار بسيطة. تذكّر، فأسرّ في أذن صديقه ساركوزي، كما أسرّ مارلو في أذن ديغول، فإذا بهاجس النجاح يأخذ في خاطر الرئيس كل مأخذ، إنما النجاح، عبر المشرق العربي، في فرنسا والاتحاد الأوروبي، وليس النجاح في تلبية سوريا للمطالب الفرنسية.

والحال، أن الرئيس الفرنسي مسكون بوعد سماه القطيعة مع الشلل الفرنسي في السياسة الفرنسية الخارجية والداخلية. وهي قطيعة ينبغي أن تظهر جليّة في الحراك بكل الاتجاهات، إن لم يكن بوسعها تغيير الأمور على الأرض، وأفضل الحراك الذي يثير غباراً ويترك أثراً، هو الحراك في المواقع الساخنة، التي تترك فيها الإدارة الأمريكية بعض هوامش الحركة، وتنعكس إعلامياً على دينامية الرئيس وعلى شخصيته الاقتحامية في فرنسا وأوروبا.

لذا حرص ساركوزي، على توطيد التحالف الأمريكي - الفرنسي، وحرص أكثر على توطيد الشراكة الفرنسية - الإسرائيلية، وذهب للانفتاح على دمشق، مرتاحاً، إنما بعد أن حصَّن تحالفه وشراكته مع الإدارة الأمريكية وإسرائيل، بالتشدّد حيال إيران، وبالتقارب مع السلطة الفلسطينية والحكومة اللبنانية، هو انفتاح يساعد بفك عزلة سوريا، إنما يؤمّن لفرنسا حراكاً في المشرق العربي، وفي الشرق الأوسط، يعوّض قليلاً ما خسرته في العراق. والأهم أن هذا الحراك يساعد على إعادة التوازن بين المانيا الممتدة إلى أوروبا الشرقية، وبين فرنسا التي أقعدها الشلل في امتداداتها الطبيعية (المشرق والمغرب) عن إدارة المحرّك الثنائي للاتحاد الأوروبي، وهو محرّك يتألف من المانيا وفرنسا.

أدرك ساركوزي أن لا ولادة لمشروع الاتحاد من أجل المتوسط بغير المشرق العربي، الذي تؤثر فيه سوريا، بإعاقة الولادة إن لم يكن بالقضاء عليها. وهي تؤثر أيضاً في المغرب العربي، ويبدو أنها وفّرت غطاء لحضور الرئيس الجزائري، قمة باريس، على الرغم من اعتراضه على المشروع، حتى اللحظة الأخيرة.

لم يغيّر الرئيس الفرنسي سلوكه حيال سوريا، فحسب، إنما غيّر تالياً خطابه، بل غيّره رأساً على عقب. ففي أثناء تحضير زيارة دمشق، عرّج وزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير على بيروت، فقال رداً على سؤال من الصحافيين: إن فرنسا لا تقدّم دروساً ولا تضع شروطاً على العلاقة مع سوريا. وفي دمشق ذهب أبعد من ذلك فقال: إن زيارة ساركوزي إلى سوريا تفتح عصراً جديداً بين دمشق وباريس. ومن على منبر مؤتمر السفراء الأخير، في 27 أغسطس/آب، أعاد ساركوزي النظر في خطابه السابق، ولم يجد غير الإعلان عن إقامة علاقات دبلوماسية بين لبنان وسوريا، إنجازاً للسياسة الفرنسية، واعتبره حدثاً تاريخياً في استقلال لبنان وسيادته، أقرّ ساركوزي، في هذا المؤتمر، سياسة الحراك في الأفكار البسيطة، على الرغم من تضخيم نتائجها غير المنظورة.

قال إن الانفتاح على سوريا، يتيح لفرنسا المشاركة برعاية المفاوضات الإسرائيلية - السورية، في الوقت المناسب. والحقيقة أن هذه المفاوضات لا تبشّر بوقت مناسب على الرغم من كثرة التفاؤل الذي يرافقها. فالإسرائيليون يستفيدون منها، لإشاعة مناخ سلمي، بانتظار ساعة الحسم في الملف الإيراني. والسوريون يستفيدون منها لتأكيد مقولة الرجوع إلى دمشق في بحث أزمة الشرق الأوسط. وفي هذا الوقت، يمكن ترويج حضور دبلوماسية الحراك الفرنسي، بعدّة اتجاهات.

أما قوله برعاية اتفاق السلام والترتيبات الأمنية بين سوريا وإسرائيل، فهو قول سابق لأوانه ومازال في علم الغيب. وهو أمر، في أحسن الأحوال، سيكون شبيهاً بالدور الفرنسي والاتحاد الأوروبي، في الرباعية، دوراً فولكلورياً، مرهوناً برغبة إسرائيل والإدارة الأمريكية، وليس مرهوناً برغبة دمشق، وهي بدورها تجهر برغبتها في الرعاية الأمريكية، بيت القصيد ودرّة العقد.

إذن لماذا يساعد ساركوزي، بفك عزلة سوريا؟ الحقيقة أن الحراك الفرنسي يتم بالتفاهم مع الإدارة الأمريكية وإسرائيل، فالعزلة أصابت شظاياها الطرفين. وهو حراك أفكار بسيطة إنما كبيرة تبعاتها، فالرئيس الفرنسي، وهو نيوليبرالي محارب، يؤمن بالفرز بين المدنية والبربرية، عبر اليد الخفية في السوق. يذهب اليوم إلى دمشق لتوقيع اتفاقيات تجارية، منها شراء سوريا 50 طائرة إيرباص حتى عام ،2028 ويفتتح ثانوية شارل ديغول، لكنها بداية، فالأوهام التي أقرّها حزب البعث حول السوق الاجتماعية، سرعان ما كشفت عن نشوء طبقة في السوق، فبدأت بتغيير سياسات الدولة حول تحرير الأسعار والأجور ورفع الدعم عن المواد الغذائية وأسعار المحروقات وحول التعاقد الوظيفي والقيمة المضافة.

يراهن ساركوزي على التفكك الاجتماعي الداخلي، في تعقّل النظام والانضمام إلى عملية السلام، وحتى تلك الساعة يكون الحراك الفرنسي قد وجد جواباً عن سؤال يطرح اليوم في دمشق وهو من يحكم سوريا؟ وهو سؤال لا يطرحه المراقبون والمهتمون بمصير النظام فقط، إنما تطرحه الغالبية الساحقة من السوريين المكتوين بنار الغلاء وضيق العيش.

* كاتب وباحث لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"