تقديس الشخصية والسلطة المستبدة

04:34 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

نستطيع أن نعترف مع بداية هذه المقاربة لطبيعة بعض نماذج السلطة السائدة في العالمين العربي والإسلامي، بأنه لا وجود لنظام حكم يمكنه أن يدعي التعالي على كل التجاوزات التي تفضي أحياناً إلى تخلف الشعوب وضياع مصالح الأمم، حيث يتعلق الأمر في معظم الأحوال بنوع من الحكمة التي تتميز بها النخب الحاكمة التي تكون لها القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة في لحظات تاريخية مفصلية من أجل مواجهة ظروف استثنائية. لكن الشيء الذي لا يمكن أن يختلف بشأنه كل إنسان عاقل هو أن السلطة المطلقة تؤدي لا محالة إلى فساد مطلق، وأن أولى عناوين وتباشير السلطة المطلقة، تبدأ مع تحول مسار ممارسة الحكم من الفضاء الجماعي والتشاركي إلى فضاء الممارسة الأحادية القائمة على عبادة الشخصية، أو تمجيد الزعيم المخلِّص.
قبل أن نشرع في الحديث عن مظاهر الحكم المطلق الذي تفرزه مسألة عبادة الشخصية، يمكننا أن نشير إلى أن محبة الشعوب والأمم لشخصيات قومية أو سياسية، وحتى دينية، ليس فيه ما يدعو إلى العجب، أو إلى الاستهجان، لأن هناك شخصيات استطاعت أن تحظى بمثل هذا الإعجاب بفضل عملها وتفانيها وتضحياتها، لكن الإعجاب والاحترام يختلف من حيث جوهره عن التقديس، ويثير علامات استفهام كبيرة بشأن مستقبل الديمقراطية والممارسة السياسية لدى شعوب، تؤمن بسذاجة، بأن هناك أشخاصاً وبشراً طبيعيين يملكون مؤهلات غير «طبيعية»، ويمكنهم أن يحققوا - فجأة وفي لمح البصر- معجزات تتجاوز قدرات الأفراد العاديين. ويصدق ذلك في زعمنا على كل التيارات السياسية في العالم، سواء كانت دينية أو مدنية، بدليل أن مصطلح عبادة الشخصية تبلور وتطور في سياق الثقافة الماركسية كرد فعل على المفاسد والمظالم التي تسببت بها فترة حكم جوزيف ستالين.
من الواضح إذاً، أن مصطلح عبادة الشخصية يحيط به غموض كبير، لأن الشخص «المعبود» - ونسمح لأنفسنا باستعمال هذه المفردات في سياق التوظيفات السياسية التي تخضع لها، وليس بناءً على معانيها الدينية السامية- يمكنه أن يكون ضحية لتقديس العامة، وقد يكون هو نفسه مسؤولاً عن ذلك التقديس، ولكن النتيجة ستكون واحدة في الحالتين، ويترتب عليها اختصار كل السلطة ومؤسسات الدولة في شخص واحد.
ويزداد مصطلح عبادة الشخصية التباساً، عندما يتم ربطه بسياقات فكرية واصطلاحية أخرى ترتبط به ارتباطاً وثيقاً، مثلما هو حاصل مع مفهوم الشعبوية.
وتشير الشخصية المهيمنة في المجتمع الشعبوي إلى وجود قوى خفية، سواء كانت داخلية أو خارجية، تعمل على تهديد الاستقرار، وتساهم نظرية المؤامرة في جعل العامة أكثر انقياداً لمشاريع وتطلعات القائد، كما تهدف الشعبوية إلى التشكيك في نزاهة النخب وتعمل على نزع الثقة بكفاءاتها، ويتم بذلك استبدالها بنخب أخرى أكثر ولاءً للقائد الرمز ولأيديولوجيته. ويصل الحاكم الشعبوي إلى التشهير بما يراه تقصيراً من قبل النخب التي يتهمها بالعمالة للخارج، ويسعى في السياق نفسه إلى الرفع من شأن ما يسمى: المعرفة العفوية والفطرية للشعوب التي هي تجسيد لحكمتها التاريخية الخالدة، وتصبح وفقاً لذلك وسائل الإعلام وكل وسائط الاتصال المتاحة جزءاً من اللعبة السياسة الجديدة، الهادفة إلى تجسيد تطلعات القائد. وتصل هذه الأنظمة الاستبدادية القائمة على عبادة الشخصية، إلى تفكيك كل مؤسسات المجتمع المدني من نقابات وأحزاب وجمعيات أهلية، فيصبح الأفراد عاجزين عن بناء مستقبلهم بشكل مستقل عن تصورات القائد، الذي يضع لهم قواعد الحياة، ويرسم لهم مسارات المستقبل.
يتحدث في السياق نفسه، ماكس فيبر في كتابه الموسوم العلم والسياسة بوصفهما حرفة، عن شروط السيطرة اللازمة لانقياد الذين يخضعون لكاريزما القائد، ويعطي سمات متعارفاً عليها تجعل الناس ينقادون لحكم القائد، لكن «فيبر» يحاول أن يستدرك الأمور حتى لا يقع في تماس مباشر مع الاستبداد الشرقي، بالقول إنه يريد أن يتحدث عن المجتمعات التي يسود فيها حكم الدولة - المدينة، أو المجتمعات التي تعتمد على البرلمانات والقوانين الدستورية، أما المجتمعات التي تؤمن بأن قادتها يمكنهم الحصول على مباركة إلهية فيصعب مقاربة بنية السلطة فيها، لأن القائد يمنح لنفسه سلطات تتجاوز سقف ما هو متصور على المستوى الغربي، ويزيد تقديسه من طرف العامة، من صعوبة وضع خطوط حمراء لنزقه وحماقاته، وتغيب بذلك كل العوائق التي تمنعه عن عزل من يشاء وتولية من يشاء، أو تحول بينه وبين إخضاع القضاء والإعلام والإدارة والأمن لسلطته الكاملة، لينتقل المجتمع دفعة واحدة من انحرافات الطبقة التكنوقراطية، ومحترفي السياسة الذين يسعون إلى تبرير أخطائهم، إلى انحرافات هواة السياسة الجدد الذين يرون أن القيادة باسم الشعب تسمح لهم بقلب سلم القيم رأساً على عقب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"