جريمة ساحة الوثبة

04:31 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الحسين شعبان

لم تنزلق حركة الاحتجاج السلمية الشعبية التي انطلقت في الفاتح من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلى العنف كرد فعل ثأري أو انتقامي أو كيدي لما قامت به السلطات الحاكمة والجماعات المسلحة ضدها، فقد بدأت سلمية وحافظت على سلميّتها، وذلك أحد مصادر شرعيتها وقوتها الأساسية، ناهيك عن كفالة الدستور لها كحق تضمنه الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
وسيكون التذرّع بفساد الطبقة الحاكمة ولجوئها إلى القمع والعنف المنفلت من عقاله، باللجوء إلى العنف المضاد غير مبرر لها تحت أي عنوان أو حجة؛ لأن الحركة تُدرك أن مثل تلك التصرفات السلبية ستخرجها عن سلميّتها التي حافظت عليها؛ إذ لا يمكن فصل الوسيلة عن الغاية. ومهما كانت الغاية شريفة وعادلة، فلا بد للوسيلة من أن تكون كذلك، ولا غاية مشروعة بوسيلة غير مشروعة. وحسب رائد المقاومة السلمية «اللاعنفية» المهاتما غاندي، فإن الوسيلة إلى الغاية مثل البذرة إلى الشجرة، وهما يرتبطان عضوياً لدرجة لا يمكن فصلهما.
وإذا كنا نعرف الوسيلة وهي راهنة ومحددة ومعلومة، فإن الغاية بعيدة وغير ملموسة، بل متخيلة أحياناً؛ الأمر الذي ينبغي أن يجعل الوسيلة جزءاً لا يتجزأ من الغاية ذاتها، وكل تعارض بينهما يعني الخروج على مشروعية الغاية. وبالنسبة للوضع العراقي سيكون اللجوء إلى العنف خروجاً عن أهداف الحركة الاحتجاجية السلمية، باتباع وسائل غير مشروعة، فما بالك إذا كانت جريمة أو انتهاكاً سافراً لحق الحياة والقتل خارج القضاء، إضافة إلى أعمال تخريب وحرق.
ما حصل في ساحة الوثبة في بغداد من إلقاء القبض على أحد الذين قيل إنهم أطلقوا الرصاص على المتظاهرين، وقتله والتمثيل بجثته في مشهد غير إنساني يثير التقزّز والاشمئزاز، ومهما كانت المبررات والدوافع فإنها جريمة مدانة ومستنكرة، وهي سابقة خطيرة لا ينبغي التقليل من شأنها، وهو ما أدركه المحتجون الذين ازدادوا يقظة إزاء أي محاولة لجرّهم إلى العنف، بإعلانهم سلمية الحركة بالمطلق وتمسكهم بشعاراتها.
ولعل اللجوء إلى العنف سيُلحق ضرراً بالغاً بحركة الاحتجاج ويفقدها أحد أهم أسلحتها المشروعة؛ أعني بذلك الوسائل المدنية السلمية التي استخدمتها بنجاح في بلورة مطالبها العادلة، سواء في جانبها المطلبي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، في ما يتعلق بفرص العمل والخدمات وتحسين ظروف العيش، أو في جانبها السياسي المتعلق بإجراء إصلاحات دستورية وقانونية، بعد أن وصلت العملية السياسية إلى طريق مسدود، وبعد فشل الطبقة السياسية التي حكمت البلاد لنحو 16 عاماً، والتي قامت على أساس نظام المحاصصة الطائفي الإثني المستند إلى «الزبائنية السياسية»، وتوزيع المغانم والامتيازات، تلك التي تكرّست منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، والذي وضع نواته بول بريمر في صيغة مجلس الحكم الانتقالي، وامتدّ إلى الدستور الذي أعدّ مسوداته نوح فيلدمان بمساعدة لاحقة من بيتر جالبرايت، وهو دستور يقوم على المكونات التي لا تعني سوى نظام المحاصصة الطائفية الإثنية. لا يمكن بأي حال تبرير جريمة ساحة الوثبة بزعم أن السلطة الحاكمة ارتكبت جرائم لا حدود لها، بقتل أكثر من 500 مواطن وجرح أكثر من 20 ألفاً، ناهيك عن استمرار استشراء الفساد المالي والإداري والتغوّل على الدولة عبر مرجعيات ما دونها وما قبلها، لكنها أصبحت ما فوقها، إضافة إلى تفشي ظواهر التعصب والتطرف والعنف والإرهاب.
وحين يتم تناول ظاهرة العنف والقتل خارج القضاء، فلا يمكن تبريرها من أين أتت، والجريمة تبقى جريمة. ولعل استدراج الحركة الاحتجاجية إلى دائرة العنف سيكون المقتل الأول لها، وسيعطي المبرّر لأعداء التغيير للانقضاض عليها؛ بل والقيام بمزيد من أعمال القتل وسفك الدماء والانتهاك، بهدف تسويد صفحة الحركة الاحتجاجية وتشويه سمعتها وإلصاق التهم بها.
أدركُ حقيقة أن الحركة الاحتجاجية في جوهرها وفي عمق مطالبها سلمية ومشروعة؛ الأمر الذي سيكون إدانة لهذه الجريمة ونبذ اللجوء إلى العنف، إبرازاً لوعي الحركة بمسؤولياتها الوطنية من جهة، حتى إن كانت محدودة جداً، وفردية جداً؛ إذ لا ينبغي لبعض حالات الجزع والقنوط أن تدفع الحركة باتجاه لا يخدم توجهها السلمي «اللاعنفي»، كوسيلة لإحداث التغيير المنشود في موازين القوى، حتى وإن كانت مناورات الطبقة السياسية والقوى الإقليمية والدولية الداعمة لها، تريد تدوير الزوايا والالتفاف على عملية التغيير الحقيقي التي يطالب بها المحتجون.
إن إدانة اللجوء إلى العنف هدفها الأول إعادة التثقيف بأهمية المقاومة المدنية السلمية «اللاعنفية» التي هي الطريق الصائب للدفاع عن الحقوق والمطالب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"