حدود التكامل الألماني - الفرنسي

05:47 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

يهدف الاتفاق الجديد الذي ستوقعه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، مع الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون يوم 22 يناير/كانون الثاني بمدينة آخن الألمانية المعروفة عند الفرنسيين باسم «إكس لاشابيل»، إلى تجديد معاهدة التعاون والاندماج بين البلدين التي جرى توقيعها بقصر الإليزيه سنة 1963، والتي عملت على تكريس التكامل الاقتصادي والسياسي والثقافي بينهما وتجاوز الخصومات التاريخية الناجمة عن النزعة التوسعية لفرنسا في عهد نابليون ولألمانيا خلال الحقبة النازية. ويحاول الجانبان الألماني والفرنسي من خلال إبرام هذه الاتفاقية المعدّلة، لمواجهة التحولات التي تعرفها القارة الأوروبية، والتي يميّزها الصعود غير المسبوق للقوى الداعية إلى العودة إلى الخصوصيات القومية.
وقد أشار بيان قصر الإليزيه المتعلق بهذه الاتفاقية، إلى أنها تسعى إلى تحقيق هدف جديد يسمح بإنجاز توافق أكبر بين البلدين من أجل مواجهة تحديات المرحلة، كما تسعى هذه الاتفاقية - بحسب نص البيان- إلى دعم العلاقات بين الجانبين، لاسيما في مجالات السياسة الاقتصادية والسياسة الخارجية والأمن والتربية والثقافة والبحث التكنولوجي والمناخ والبيئة، إضافة إلى دفع التعاون ما بين المناطق الحدودية للبلدين من جهة وما بين المجتمع المدني في كل من ألمانيا وفرنسا من جهة أخرى، لتكريس الأمن والرفاهية لمواطني الدولتين في إطار كيان أوروبي أكثر سيادة، يتمتع بالوحدة والديمقراطية.
ويرى الكثير من المراقبين أن برلين وباريس تعملان على استباق التحولات السلبية التي بدأت تشهدها القارة الأوروبية على خلفية البريكست البريطاني وتنامي المشاعر القومية المتطرفة، كما تحاول امتصاص الصدمة الناجمة عن التغيرات السياسية التي ستشهدها ألمانيا بعد إعلان المستشارة ميركل، انسحابها من الحياة السياسية بعد نهاية ولايتها الحالية، وكذا التغيّرات التي من المحتمل أن تشهدها فرنسا في المواعيد الانتخابية المقبلة على خلفية الاحتجاجات الشعبية التي عرفتها البلاد، والتي أدت إلى انهيار شعبية الرئيس ماكرون، وبخاصة أن المتابعين للشأن الداخلي الفرنسي يجمعون على أن إمكانية وصول زعيمة اليمين المتشدد السيدة مارين لوبان، إلى السلطة لم يعد مستبعداً.
وتشير التقارير الدولية إلى أن سنة 2019 ستكون حبلى بالكثير من المفاجآت والتحولات على مستوى القارة العجوز، بسبب الضباب الذي يلف ملف البريكست وصعوبة التوافق على رئيس جديد للمفوضية الأوروبية خلفاً لجون كلود جونكر، وبخاصة أن الانتخابات الأوروبية التي ستجري في شهر مايو/أيار المقبل، ستعرف حصول اليمين المتشدد في عدد من الدول الأوروبية ومن بينها فرنسا، على مقاعد إضافية، الأمر الذي ستكون له تأثيرات سلبية على مسار البناء الوحدوي لأوروبا وعلى البرامج الاندماجية التي وضعتها مؤسسات الاتحاد في بروكسيل، وذلك فضلاً عن التراجع الشعبي للتحالف الفرنسي -الألماني، لاسيما على مستوى الجانب الفرنسي نتيجة للضعف الكبير الذي أبداه الرئيس ماكرون في مواجهة أزمات بلاده الداخلية.
وبالتالي، فإنه من غير المستبعد أن تشهد أوروبا خلال الشهور المقبلة، مزيداً من التحالف بين القوى الشعبوية في كل من إيطاليا والسويد والمجر وبولندا، وسيزداد هذا التوجه وضوحاً في سياق مناخ عام يشككك في مزايا الاتحاد، ويدعو إلى تحجيم نفوذ بروكسل في كل ما يتعلق بالسياسات الداخلية للدول، وهذا ما جعل قيادات بعض الدول تتخلى عن الأعراف الدبلوماسية وعن واجب التحفظ، كما هو الشأن بالنسبة لوزيري الداخلية والعمل في إيطاليا اللذان عبّرا عن دعمهما لحركة «السترات الصفراء» في فرنسا في مرحلة تشهد فيها العلاقات بين باريس وروما تراجعاً كبيراً.
ويطرح المراقبون في السياق نفسه تساؤلات جوهرية بشأن قدرة ميركل، على المحافظة على التحالف الحاكم الذي تقوده، والذي من غير المستبعد أن يشهد هزات قوية خلال المواعيد الانتخابية المقبلة وفي مقدمها اقتراع مايو/أيار، الذي سيكون بمثابة استفتاء شعبي حقيقي حول سياسات ميركل الأوروبية داخل ألمانيا، وسيسمح لا محالة بإجراء تقييم موضوعي للتحالف والتكامل بين فرنسا وألمانيا الذي تسعى اتفاقية «إكس لاشابيل» للدفاع عنه في سياق وضع أوروبي بات أقل انجذاباً نحو مشاريع الوحدة، وعليه فإنه وفي حال تفكك التحالف الذي تقوده المستشارة، فإن التغيير في أعلى هرم السلطة في برلين سيكون أسرع بكثير مما يتوقع الكثيرون.
هناك إضافة إلى ما تقدم.. شعور عام بالإحباط في الشارع الفرنسي والألماني بشأن المستقبل، فالفرنسيون ينظرون بعين الريبة إلى كل الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تريد حكومتهم تنفيذها ويخشون أن تزداد أوضاعهم الاجتماعية سوءاً، كما أن المواطنين الألمان، وبالرغم من النجاحات الاقتصادية التي حققها الفريق الحكومي بقيادة ميركل، إلا أنهم باتوا أكثر قلقاً على مستقبل بلدهم وأكثر توجساً بشأن مكاسبهم الاجتماعية، وبخاصة مع التضخيم الإعلامي الذي تقوم به المعارضة لملف المهاجرين؛ وتؤثر كل تلك العوامل بشكل لافت في مشروع التكامل بين ألمانيا وفرنسا، الذي سيتأثر لا محالة بالأجواء المشحونة التي تسود علاقات الاتحاد الأوروبي بإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي لم يتوقف منذ وصوله إلى السلطة عن مهاجمة السياسات الاقتصادية لبرلين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"