حدّا المطلق والنسبي في السياسة

03:16 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

كان المفكّر السوري الياس مرقص (1927-1991) من أكثر المفكّرين العرب الذين دعوا إلى التعامل مع المفاهيم بوصفها حدوداً، ونادى بإقامة النسبي حدّاً على المطلق، كما المطلق حدّاً على النسبي، معتبراً أن «من ليس عنده في فكره وروحه المطلق يحوّل نسبيّه إلى مطلق، وذلكم هو الاستبداد»، والحال أن مرقص كان يشخّص واقع الاستبداد، حيث حوّلت معظم النخب العربية الحاكمة نسبيّها الأيديولوجي إلى مطلق، رافضة أن توسّع مداركها لتقبّل وجود الآخر في الأيديولوجيا، والسياسة، حتى تحوّلت أيديولوجيتها إلى مطلق، لا يأتيه الباطل لا من أمام، ولا من وراء.
مأساة المطلق في المعرفة، خصوصاً المعرفة العملية، كما السياسة، لم تغادر الفكر العربي عموماً، منذ أن حاول مفكرو عصر التنوير العربي الأوائل، في أواخر القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، أن يجيبوا عن الأسئلة التي أحدثتها صدمة الآخر/ الأوروبي، واستمرت، بل تفاقمت أكثر، مع الأحزاب الأيديولوجية التي عرفتها الدول العربية، فقد اعتبر كلّ تيار من التيارات الرئيسية (القومية، والماركسية، والإسلامية)، أنه مالك الحقيقة المطلقة، وأن رؤيته للتغيير والحكم هي الأفضل.
الحاجة إلى الأيديولوجيا هي من بديهيات السياسة، لكن الأيديولوجيا ليست المعرفة، بل إن الأيديولوجيا تبنى على المعرفة، أو على أقلّ تقدير لا يمكن لها أن تكون مقنعة من دون حامل معرفي، لكن المعرفة نفسها ليست مطلقة، بل شرطها الأساس الاعتراف بالنسبيّ، ومن هنا فإن استمرار تحكّم المطلق في العقل السياسي هو شكل من أشكال الشمولية الاستبدادية، بل والفاشية، وفي تاريخنا المعاصر، ثمة أمثلة لا تحصى على تحوّل المطلق السياسي/ الأيديولوجي إلى ديكتاتورية، ونازية، وفاشية، حيث خاضت شعوب بأكملها حربين عالميتين، تحت رايات أيديولوجيات عمياء، تحتكر الحقيقية.
في العقل الأيديولوجي الصرف، تعكس مرآة الذات ذاتها، فلا آخر فيها، بل لا حقّ للآخر أن يتواجد كجزء مكمّل، أو ضروري لعلاقة الذّات بذاتها، ومن هنا فهو عقلٌ فردوسي، يقابله عقل شيطاني، ومن هنا فإن هذا العقل يرى من حقّه أن يطلق أحكام القيمة على الآخرين، لكن ليس من حقّ الآخرين أن يطلقوا عليه أحكام القيمة، فكيف، من وجهة نظره، أن يطلق الشيطانيّ حكم قيمه على الفردوسيّ.
أيضاً، يحتاج النسبيّ في السياسة إلى قيمٍ مطلقة، أو حقلٍ قيمي، لكن القيم المطلقة في السياسة الحديثة هي نتاج عقد اجتماعي ديمقراطي، تنتجه قوى وضعية، يأخذ في حسبانه الحقوق الفردية والجماعية، وينطلق أساساً من فكرة الحقوق المتساوية للجميع، فتكون غاية السياسة، وغاية التنافس السياسي، هي تحقيق تلك القيم المطلقة، بأدوات نسبية متغيّرة، تبعاً للمعطيات والظروف، وهو ما بات يعرف ب»قيم المواطنة المتساوية»، في الدّول المتقدمّة ديمقراطياً.
إن الدّولة، بوصفها «الروح المطلق»، كما يعرّفها الفيلسوف الألماني فريدريش هيجل (1770-1831)، هي قيمة مطلقة، وما دونها في السياسة هو النسبي، ومن هنا، فإن كلّ ممارسة سياسية هي ممارسة من أجل الدّولة، لكن لا يجب عدم التماهي بين السلطة السياسية بوصفها ممثلاً للنسبي مع الدولة بوصفها ممثلاً للمطلق، فهذا التماهي من شأنه أن يحوّل الدّولة، ككيان، وكمؤسسات، إلى أدوات عند السلطة السياسية، التي تصبح مطلقاً.
وليس من قبيل الصدفة، أن تصبح عملية إعادة إنتاج الاستبداد، بأشكال أيديولوجية مختلفة، وبرموز مختلفة، صيرورة في عالمنا العربي، فلا تزال السياسة في هذا العالم حقلاً لا يقوم على التمايز المعرفي بين النسبي والمطلق، بل على عملية التماهي بينهما، وقد تطول هنا قائمة الأسباب العميقة لهذا التماهي، لكن، من دون أدنى شك، ثمة استثمار سياسي لإبقاء المطلق في العقل الجمعي، وإغلاق المنافذ التي تفسح في المجال أمام العقل المعرفي، القائم على النسبية، والشك، والفكر النقدي الحر.
إن إعادة رسم السياسة، والسلطة، والتنافس الحزبي، والشأن العام، وغيرها من القضايا السياسية، وفق حدَّي النسبي والمطلق، وفهم ساحة كلّ منهما، هي مسألة راهنة في العالم العربي، فقد شاهدنا، ولا نزال، كيف تحوّل النسبيّ الذي يمثل ما قبل الدّولة، من طائفية، ومذهبية، ومناطقية، وعشائرية، إلى مطلق، في الدّول التي تداعت فيها الأنظمة الشمولية العربية، فهي، كانت على مدار عقود، قد جعلت من أيديولوجيتها مطلقاً سياسياً، ومع تداعيه لم يكن هناك من يملأ الفراغ سوى قوى ما قبل السياسة، وما قبل الدّولة.
لقد أكّدت وقائع السنوات الماضية، في العالم العربي، أن محاولة تأبيد الزمن السياسي استنفدت نفسها، وأن تحويل الذات إلى مطلق، لا يترك خيارات كثيرة للآخر، بل قد يدفعه إلى مغادرة عالم السياسة إلى عالم العنف، وهو ما تدفع ضريبته اليوم بعض دول المنطقة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"