حراكات الربيع العربي وشعار المواطنة

04:33 صباحا
قراءة 3 دقائق

المجتمعات العربية، عبر الوطن العربي كله، هي من أكثر مجتمعات العالم اتصافاً بالتعددية الكبيرة التي حفرها التاريخ والجغرافيا وتطورات السياسة . وتمتد تلك التعددية عبر الأديان والمذاهب والأعراق والثقافات واللغات والتجاذبات المنهكة بين الماضي والحاضر، وبين الأصالة والمعاصرة . ولا ينطبق هذا الأمر على الوطن العربي ككل فقط، وإنّما ينطبق أيضاً على الكثير من أقطاره .

من هنا فإن ثورات وحراكات الربيع العربي تحتاج لأن تعطي جوانب التعددية تلك أهمية خاصة، وتوليها أولوية في برامجها وشعاراتها . ذلك أن الأقليات العربية المنتمية لواحدة أو أكثر من تلك التعدديات تحتاج إلى أن تطمئن إلى أن أنظمة مابعد الثورات والحراكات لن تنشغل بمصالح الأكثرية على حساب مصالح الأقليات . وفي اعتقادي أن شعار الديمقراطية لن يكون وحده كافياً لطمأنة جماعات التعددية بكل أشكالها وأحجامها ومدى تجذرها في الواقع العربي، والسبب هو أن شعار الديمقراطية شعار عام وهو في ذهن الكثيرين من عامة الشعب لا يزيد على إجراء انتخابات نزيهة، وقيام برلمانات كاملة الصلاحيات، واستقلالية السلطات الثلاث، وتبادل للسلطة . إنه فهم محدود للديمقراطية كأداة تنطيمية .

واقع التعددية في بلاد العرب، بسبب مآسي التاريخ وممارسات قرون من الاستبداد وتخلف مفجع في الفكر السياسي، يستدعي طرح شعارات أخرى بنفس القوة والانتشار التي يطرح بها شعار الديمقراطية . في قلب تلك الشعارات وعلى رأس قائمتها شعار المواطنة .

أقليات التعددية لن يرتاح لها بال ولن تشعر بالأمان إلا إذا رأت وضوحاً تاماً وانحيازاً كاملاً عند قادة الثورات والحراكات لكل مبادئ ومكونات وأدق تفاصيل شعارالمواطنة . ولن يكفي أن يقال إن المواطنة هي تحصيل حاصل في الديمقراطية، إذ من الممكن أن توجد كل المظاهر التنظيمية للديمقراطية التي ذكرنا سابقاً ومع ذلك تغيب ممارسات المواطنة .

إذاً، في هذه اللحظة التي يتكون فيها فكر سياسي عربي عصري جديد ينعكس على الواقع اليومي المتفجر في كل مكان، تحتاج القوى السياسية والمؤسسات المدنية أن تولي اهتماماً خاصاً بموضوع المواطنة كشرط من شروط قيام الديمقراطية، لا يقلّ في أهميته عن شروط من مثل الانتخابات والبرلمانات والحكومات المنتخبة . . إلخ . وأولى خطوات الاهتمام هو أن تجعله جزءاً من تثقيفها السياسي اليومي لجماهيرها، وشعاراً تردده في كل منبر إعلامي وفي حلقات نقاش على كل مستوى من أجل توضيح وترسيخ مفصليته في قائمة المطالب المطروحة في ساحات النضال العربية .

هنا يجب التذكير بأنه مثلما الديمقراطية السياسية لا تكتمل ولا تستقر إلا بالتحامها مع الديمقراطية الاجتماعية الاقتصادية، فكذلك الحال مع المواطنة الحقوقية القانونية فإنها لا تكتمل إلا باندماجها الكامل مع المواطنة الاجتماعية الاقتصادية التي يحس بها المواطن ويعيشها في كل نشاط من نشاطاته اليومية، وفي كل ركن من المجتمع الذي يعيش فيه .

عندما تعرف الجماعات التعددية أن مفهوم المواطنة لا ينفي التعددية، ولكنه يشجع وجودها المتفاعل الخلاق تحت ماتفرضه المواطنة من انتماء مدني جامع للكل يقوم على المساواة في الحقوق والواجبات والفرص والامتيازات، ويخضع لرقابة حكومية ومجتمعية صارمة، ويتحسن باستمرار نحو الأكثر عدالة وتعاضداً وأخلاقية، عندما تعرف أن خطوات عملية تتحقق الآن ولا تنتظر دورها في المستقبل الحالم البعيد، فإنها ستندمج في الثورات والحراكات ولن تشيع أجواء الخوف والتردد كما يفعل بعضها الآن في بعض ساحات أرض العرب .

إن ذلك الخوف والتردّد تؤججه وتغذيه آلة إعلامية خبيثة، عن طريق بعض الإذاعات ومحطات التلفزيون المحلية والفضائية، وبعض شبكات التواصل الإلكتروني، ويشرف عليها أناس انتهازيون مرتشون باعوا أرواحهم للشيطان ورموزه السياسية والاقتصادية . إنها آلة إعلامية ترسخ الطائفية والقبلية والقطرية المحلية والتهويمات الدينية الغبيّة الجاهلة والتمزيق الإثني واللغوي . إن الردّ المطلوب من زخم الثورات والحراكات هو أنه لن يكون هناك محلّ لتلك التخريفات والسموم في ظلّ مكونات وممارسات المواطنة الديمقراطية العادلة التي تقوم على القيم السماوية والإنسانية وما يفرضه الضمير وتتطلبه الأخلاق .

المواطن العربي العادي يجب أن يعي ذلك جيداً، ويأكل ويشرب منه يومياً ويرفعه في وجه من يبث هذه السموم .

المواطنة هي التي تقوم على أسس الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي نصت عليها المواثيق الدولية ونادت بها الدّيانات السماوية، مواطنة المواطن الذي هو مصدر السلطات ومنبع الإرادة المجتمعية، مواطنة التسامح والتفاهم والتعاضد مع الآخرين، مواطنة الرفض التام لأي إقصاء أو تعصب أو اعتداء على حقوق الآخرين، مواطنة العقل الأخلاقي المستنير المرن، المواطنة المحكومة أبداً بحساسية شديدة بمقتضيات العدالة . هذه المواطنة، بكل تلك التفاصيل، يجب أن تصبح شعاراً عالياً في ساحات التجمعات وعلى كل منبر إعلامي شريف، وضمن كل برنامج لقوى الثورات والحراكات العربية الماضية في الطريق الطويل .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"