حرب الاستخبارات في المنطقة العربية

05:14 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

ارتفعت وتيرة حرب الاستخبارات العالمية في الوطن العربي، مع اندلاع ما يسمى بموجات الربيع العربي، وأضحى الأمن القومي العربي عرضة للعبث وللاختراق من طرف القوى الإقليمية والدولية، ووصلنا الآن إلى مرحلة مفصلية من الصراع، بخاصة مع تشكّل جبهتين متعارضتين: الأولى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، والثانية بزعامة كل من روسيا وإيران، حيث اتجهت المواقف العربية في مجملها نحو الاصطفاف مع أحد الفريقين، ولم تكلل حتى الآن محاولات بعض الأطراف العربية بقيادة مصر والإمارات من أجل صياغة موقف عربي موحّد، بالنجاح نتيجة لهيمنة الحسابات القطرية الضيقة على القسم الأكبر من العواصم العربية.
وتشير مختلف التقارير المتعلقة بالمنطقة العربية إلى أن السباق المحموم من أجل جمع المعلومات في مناطق النزاع في العراق وسوريا واليمن وليبيا، يزداد حدة وشراسة، كلما توصل أحد الأطراف إلى تحقيق بعض المكاسب الميدانية على أرض المعركة.
ويبدو أن السباق الاستخباراتي مرشح إلى أن يأخذ أبعاداً أكثر خطورة على الأمن الداخلي للدول العربية، نتيجة لوصوله إلى مرحلة الاستنزاف لطاقات الدول المنخرطة في أتون هذا الصراع.
وعليه، فإنه من المستبعد في هذه المرحلة الاستثنائية، التي تغلب عليها القلاقل والفتن الداخلية، أن تعيد الدول العربية تحويل بوصلة صراعها نحو العدو «الإسرائيلي»، الذي يعتبر حتى الآن، المستفيد الأول من هذه الحرب السرية بالغة الضراوة.
لقد تحوّلت المعطيات السرية إلى عناصر أساسية في الصراع الدائر حالياً على مستوى المنطقة العربية، لاسيما في العراق وسوريا، حيث يسعى كل طرف إلى الدفاع عن مصالحه الخاصة.
وتتم عملية توظيف وتبادل المعلومات على مستويات عدة، انطلاقاً من المحيط الإقليمي العربي مروراً بالمحور التركي - الأوروبي والأمريكي، ووصولاً إلى روسيا والجمهوريات السوفييتية السابقة.
ونلاحظ مثلاً، أن الولايات المتحدة تسعى بكل ما أوتيت من قدرات أمنية وعسكرية، إلى التحكم في مسار تدفق المعلومات بهدف تجنّب الكشف عن معطيات دقيقة وخطرة تتعلق بأزمات المنطقة، وفي مقدمها الأزمة السورية.
وتمثل فضيحة بيع سيارات تويوتا رباعية الدفع إلى تنظيم "داعش" في العراق وسوريا، وحتى في ليبيا، مثالاً واضحاً عن طبيعة الخيارات غير الأخلاقية التي تتبناها الاستخبارات الدولية في المحيط الإقليمي العربي، حيث تشير مختلف التقارير الأمنية إلى أن وسيطاً عراقياً قريباً من الاستخبارات الأجنبية، لعب الدور الأبرز في إتمام هذه الصفقة المشبوهة.
وبالتالي، فإن الأطراف الدولية المطّلعة، تستبعد أن تكون صفقة السيارات قد تمت من دون علم وكالة الاستخبارات الأمريكية.
كما يشير المراقبون والخبراء الدوليون في السياق نفسه، إلى قيام الاستخبارات الأمريكية بتصفية أعضاء وقادة بعض التنظيمات التكفيرية من أجل تجنب إمكانية وصول بعض الحقائق المتعلقة بحروب المنطقة إلى أطراف مناوئة.
ويمكن القول من جهة أخرى، إن الولايات المتحدة الأمريكية، سعت بشكل واضح إلى توجيه الإعلام الإقليمي والدولي نحو استخلاص استنتاجات غير دقيقة، تتعلق برفض الولايات المتحدة المزعوم، الانخراط المباشر في الحرب السرّية الدائرة حالياً في سوريا، من أجل التغطية على الجهود الجبارة المبذولة من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في المنطقة العربية وبتنسيق مباشر مع الموساد «الإسرائيلي». وجاء التصريح الذي أدلى به وزير الدفاع الأمريكي أمام البرلمان الأمريكي، والمتعلق بفشل برنامج بلاده الذي خصص لتدريب 60 مقاتلاً سورياً، والتحاق 4 أو 5 منهم فقط إلى العمل في الميدان؛ من أجل التغطية على البرنامج الحقيقي للاستخبارات الأمريكية الذي تمثل في الإشراف على تجهيز أكثر من 10آلاف مقاتل في صفوف التنظيمات المسلحة في سوريا.
ولا تتعارض هذه المقاربة في كل الأحوال مع اعتراف الكثير من المتابعين، بأنه من الصعب الحصول على إحصاءات ومعلومات دقيقة وذات مصداقية حول مستوى وحجم تورط المخابرات الأمريكية في الحرب الأهلية التي تجري فوق الأراضي السورية.
وبناءً على الكثير من التسريبات التي جرى تداولها عبر وسائل الإعلام، فقد أشارت جريدة واشنطن بوست، على سبيل المثال لا الحصر، إلى أن الإسهام الأمريكي الذي تمثل في صرف أكثر من مليار دولار أمريكي جاء ليدعم جهوداً إقليمية كبرى بذلتها تركيا لمساعدة المعارضة على التصدي لنظام الأسد.
وبالتالي، فإن الاستخبارات الأمريكية أرادت أن تقنع الجميع أن التورط الغربي في الحرب السرّية متواضع وقد يكون غير مجد؛ الأمر الذي يفسِّر جزئياً سعي الاستخبارات الأمريكية والأوروبية إلى تحميل تركيا وزر ومسؤولية دعم بعض المجموعات المتطرفة، تزامناً مع حرصها الكبير على تبييض صورة أجهزة الاستخبارات الغربية.
وقد ساهم التدخل الروسي المباشر في سوريا الذي حدث خلال الأشهر الأخيرة من السنة الماضية، في ترسيخ ودعم هذه الصورة، بعد أن جرى إفشال الكثير من الخطط الاستخباراتية الروسية، التي أخفقت في التصدي بشكل مباشر للقوى الغربية والإقليمية التي كانت تمتلك الكثير من الأوراق القوية على مستوى الساحة السورية.
ودفعت هذه الوضعية الصعبة التي أضحى يواجهها حلفاء روسيا في المنطقة، القيادة العسكرية في موسكو إلى التورط بشكل أكبر في المستنقع السوري، من أجل تجنب الانهيار الكامل للجيش السوري ولحلفائه الإقليميين.
وتفيد الكثير من التقارير الأمريكية بأن واشنطن تخلت في وقت مبكر من عمر الأزمة السورية عن خيار التدخل العسكري المباشر، لمصلحة خيار مضاعفة الحرب الدولية السرية ضد نظام الأسد، وبالتالي فإن الطابع السري لهذه الحرب كان بمثابة المصدر الأساسي لحالة الغموض التي كانت، وما زالت تلف الموقف الرسمي للقوى الغربية في سوريا، وهو الأمر الذي أكده السيناتور الأمريكي جون ماكين، الذي سبق أن صرّح بأن المخابرات الأمريكية تعمل بجدية في سوريا، من دون أن يوضح حجم هذا الانخراط الأمريكي في الأزمة السورية.
ونستطيع أن نخلص في الأخير إلى أن حروب الاستخبارات العالمية في المنطقة العربية، لم تؤد إلى تراجع مفاهيم الأمن القومي العربي المشترك فقط، بل دفعت قسماً من النخب السياسية والثقافية في الدول الوطنية والقطرية إلى التخلي عن مبادئها وقيمها الوطنية، والتوجه نحو دعم الخيارات والولاءات الطائفية والمناطقية والعرقية، التي تؤدي إلى تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ.
والأمر لا يتعلق في نهاية المطاف بالمستقبل السياسي لسوريا، ولا بمصير نظام الأسد، أو بمسار التحولات السياسية الجارية حالياً في العراق، بقدر ما يرتبط بقدرة هاتين الدولتين العربيتين المحوريتين على استعادة سيادتهما الكاملتين على أراضيهما، لاسيما مع تواتر التصريحات الغربية التي تشير إلى أن العراق وسوريا، بوصفهما يمثلان كيانين مستقلين، لم يعد لهما وجود حقيقي على خريطة التحولات الإقليمية الجارية.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"