حروب الغرب وأجندات الشعوب

03:22 صباحا
قراءة 4 دقائق
وصل العالم في العقد الأخير إلى وضعيات سياسية وجيواستراتيجية غير مسبوقة نتيجة للتعارض الواضح ما بين أهداف الغرب وتصوراته التي توجه حروبه وتحركاته العسكرية عبر كافة أرجاء المعمورة من جهة، وأجندات الشعوب المستندة على المعطيات الثقافية والحضارية التي فشلت العولمة حتى الآن في احتوائها أو تحويل توجهاتها نحو مشاريع أخرى تتعارض مع الخيارات الهوياتية للمجتمعات.
ويمكن القول إن حروب الغرب استطاعت أن تُخضع الكثير من الدول الوطنية لنفوذها المباشر، نتيجة للفروق العالية في مستوى القوة العسكرية والمادية بين القوى العسكرية الكبرى وبين قدرات الدول الوطنية المتواضعة، لكن صلابة الشعوب ورباطة جأشها حول انتصارات الغرب العسكرية الخاطفة إلى هزائم استراتيجية متعاقبة، بعد فشل تلك الحروب في تجسيد أهدافها على أرض الواقع. وبالتالي فإنه وعوض الحديث عن انتصار الأفضل عسكرياً ومادياً، فإن بعض المراقبين لمسار الأحداث في العالم، باتوا يتحدثون عن هزيمة هذا «الأفضل»، خلافاً للمثل الدارج الذي يقول إن الانتصار والغلبة يكونان دائماً ل«الأفضل».
لقد استطاعت الشعوب المتمسكة بقيمها وانتماءاتها الثقافية والحضارية أن تقلب نظام المفاهيم وتثبت للغرب أن هناك تفاصيل وجزئيات مفصلية يراها هو غير مهمة ولكنها شديدة الأهمية على مستوى معادلة الصراع الوجودي ما بين الأمم والشعوب، وهذا التحدي الحضاري هو الذي يفسر في اعتقادنا هزيمة جيوش نظامية ودول وطنية عديدة في معاركها العسكرية مع الغرب، في مقابل انتصار شعوبها من خلال إفشالها لمشاريع وخطط الغرب الهادفة إلى الهيمنة والسيطرة. ويؤشر هذا التحول المتعلق بالحراك الدولي إلى حدوث انقلاب كبير على مستوى مفاهيم الحروب الكلاسيكية التي كانت تقوم بها القوى الاستعمارية في القرون الماضية، والتي كانت تؤدي بشكل تلقائي إلى إخضاع مزدوج لكل من الدول والشعوب، وبخاصة في تلك المراحل التاريخية التي كانت الشعوب تنظر فيها إلى نفسها على أنها رعايا لإمبراطوريات وكيانات سياسية هجينة لا تؤمن بقيم الوطن والمواطنة.
ونستطيع أن نلاحظ في هذا السياق، أن الغرب يجد نفسه في هذه المرحلة التاريخية الفارقة، في حيرة من أمره وعاجزاً عن قراءة وتفسير المشهد السياسي العالمي بالحكمة والحصافة الضروريتين من أجل مواجهة مثل هذه التحديات، نتيجة لفشله في تحويل انتصاراته العسكرية الخاطفة إلى انتصارات استراتيجية قادرة على تجسيد أهداف حروبه على أرض الواقع، فقد انهزمت أمريكا المتفوقة تقنياً وعسكرياً في حربها ضد الفيتنام، وعادت القوات الأمريكية إلى قواعدها بخف حنين بعد أن فقدت الكثير من جنودها وعتادها، وصرفت قسماً كبيراً من احتياطاتها المالية في حرب عبثية خيبت آمالها وآمال حلفائها في المنطقة. كما انهزمت القوات السوفيتية في أفغانستان رغم قوتها العسكرية الضاربة، وأسهم تورطها في تربة غامضة لا تعرف خباياها وأسرارها، في التعجيل بتفكك وسقوط المعسكر الشرقي برمته. ويمكن القول عطفاً على ما سبق إن غزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق، أسهم في فقدانها لموقعها كقطب عالمي أوحد بعد عجزها عن تجسيد أهدافها، وأدى إلى إشاعة الفوضى في منطقة الشرق الأوسط وفي انتشار التنظيمات الإرهابية التي تدعي محاربتها الآن.

من الواضح بناء على كل ما تقدم، أن العالم لم يعد في مواجهة حروب تقليدية تكون فيها جيوش في مواجهة جيوش أخرى، سواء كانت مكافئة لها أو ضعيفة من حيث قدراتها القتالية والتكنولوجية؛ حيث إن علاقة الضعيف بالقوي، وفق ما يذهب إلى ذلك المفكر السياسي «جيرار شاليان»، لم تعد تحمل الدلالات نفسها التي كانت تحملها منذ قرون خلت، لأن السيطرة على الجغرافيا لا يعني بالضرورة السيطرة على أحلام المجتمعات وتطلعات الشعوب التي صنعت تاريخ وإحداثيات تلك الجغرافيا الشائكة، وذلك ما أدى إلى حدوث انقلاب كبير في العلاقة ما بين مفهومي القوي والضعيف. ونزعم في هذا المقام، أن الكثيرين باتوا مقتنعين الآن أكثر من أي وقت مضى، أن الضعفاء يمكنهم أن يوظفوا ضعفهم المادي والعسكري من أجل التفوق في حروب غير تقليدية تعتمد في المقام الأول على صراع الإرادات. وذلك ما يجعل إمكانية عودة زمن المستعمرات في شكلها التقليدي أمراً مستبعداً إن لم نقل مستحيلاً، فقد خرجت جيوش القوى الكبرى من المناطق التي احتلتها في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بشكل مذل ودون أن تحقق أياً من أهدافها الرئيسة، بالرغم من الفارق الكبير بين قوتها وقوة حركات المقاومة التي تصدت لها وواجهت غطرستها وجبروتها.
وبالإمكان الاعتراف في سياق هذا التحليل، أن من يوصفون بأنهم «ضعفاء» باتوا الآن أكثر معرفة بخصائص خصومهم «الأقوياء»، ويعملون الآن على استثمار تلك المعرفة بشكل أفضل بكثير من خصومهم، من أجل الحصول على نتائج باهرة في ساحات الوغى.
ويبدو في الأخير، أن جهل الغرب بثقافة الآخرين واستهانته بقدرتهم على مجابهة معطيات القوة المادية التي يمتلكونها، جعله يكرر الأخطاء نفسها من الفيتنام إلى العراق، ناسياً أو متناسياً أن من يفوز في المعركة لا يعني أنه سينتصر بالضرورة في هذه الحرب الحضارية المفتوحة على كل الاحتمالات؛ فهناك بون شاسع بين مخططات القوى العظمى وبين أجندات الشعوب الثاوية في لاوعيه الجمعي. أجندات يمكننا الجزم أنها ذات مرجعيات مجتمعية راسخة، تجعلها قادرة على التصدي لمثل تلك المخططات بجسارة وعبقرية تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن صراع الذكاء الاصطناعي مع رؤى العالم التي يعكسها الحس الحضاري للشعوب، لا يمكن حسمه افتراضياً بعيداً عن ساحات التاريخ والعمق الحضاريين للأمم والثقافات.

الحسين الزاوي

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"