حكومات لبنان

04:24 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد نور الدين

تكاد تمر خمسة أشهر على تكليف سعد الدين الحريري بتشكيل حكومة لبنانية جديدة من دون أن ينجح في ذلك. والمسؤولية بالطبع لا تقع عليه وحده، ولا على طرف واحد بعينه؛ بل إنها تعكس في العمق الطبيعة المزدوجة؛ بل المتعددة للنظام السياسي اللبناني.
تاريخ لبنان هو تاريخ اللااستقرار في تشكيل الحكومات والحراك السياسي عموماً. فلبنان منذ ولادته الأولى في منتصف القرن التاسع عشر مع القائمقاميتين، ومن ثم مع ولادته الثانية مع لبنان الكبير عام 1920، ومن ثم ولادته الثالثة في العام 1943، هو خليط من التدخلات الخارجية المباشرة ومن النزعات الطائفية الحادة. وفي الحالتين كانت لنتائج الخلافات والانقسامات نتائج مدمرة على المجتمع اللبناني.
ففي الخمسينات كان للصراع بين المشروع الغربي والمشروع القومي العربي، انعكاس على الاستقرار الداخلي، فكانت ثورة 1958 ضد الرئيس كميل شمعون الذي استدعى قوات المارينز إلى بيروت لدعم نظامه. ولم تهدأ الأمور بشكل كامل إلا مع التفاهم المصري الأمريكي، الذي ساد في مرحلة الرئيس فؤاد شهاب.
وعادت الأمور إلى نقطة التأزم مع دخول الثورة الفلسطينية إلى لبنان بشكل واضح، بعد حرب يونيو/حزيران 1967، حيث استخدم الفلسطينيون الأراضي اللبنانية منطلقاً لشن عمليات فدائية ضد «إسرائيل»، وكان اتفاق القاهرة عام 1969 الذي شرّع الوجود الفلسطيني العسكري في منطقة العرقوب اللبنانية، ذروة في تأزم الوضع الداخلي الذي استمر في الاحتقان وصولاً إلى انفجار الحرب الأهلية/الخارجية في لبنان عام 1975.
فتحت هذه الحرب الباب على مصراعيه للتدخلات الخارجية السياسية والمسلحة، وشهد لبنان بين عامي 1975 و1989 تطورات داخلية وخارجية مدمرة، لم يعرف لها من قبل مثيلاً.
وبعد اتفاق الطائف كانت سوريا بتغطية عربية وأمريكية، الناظم للحياة السياسية. فكانت الحكومات تتألف خلال أيام وفقاً للإرادة السورية، وكان التدخل السوري في كل شاردة وواردة، لكن يمكن اعتبار مرحلة الوجود السوري في لبنان من 1990 إلى 2005 الأكثر استقراراً سياسياً وأمنياً في البلاد.
ومع اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري عام 2005، عاد لبنان إلى مربع عدم الاستقرار والتناهش الخارجي له. وعادت التدخلات الدولية والإقليمية بقوة، ولم يكن تشكيل الحكومات ليحصل إلا بعد تدخلات هذه القوى. واتفاق الدوحة عام 2008 كان مثالاً على ثقل العوامل الخارجية في الأزمات اللبنانية، حيث تقاطر الزعماء اللبنانيون إلى قطر للتصالح فيما بينهم تماماً كما تقاطروا إلى الطائف في السعودية عام 1989 للتباحث في صيغة لوقف الحرب. وجود المهندس والناظم الخارجي كان دائماً عنصر ضبط الإيقاع للأحداث الداخلية.
اليوم على الرغم من إجراء انتخابات نيابية للمرة الأولى منذ العام 2009 في مايو/أيار الماضي، لم تتمكن القوى السياسية اللبنانية من الاتفاق على تشكيل الحكومة الجديدة. ورغم أن العامل الخارجي محوري في عدم التشكيل هذا، لكن لا يمكن إهمال الطبيعة الطائفية للنظام اللبناني في هذا العجز.
ففي السابق كان رئيس الجمهورية الماروني يتحكم بمفاصل التشكيل، ولكن بعد اتفاق الطائف باتت سوريا تتحكم في ذلك، وبعد الخروج السوري عام 2005 بدأ يظهر ما يعرف ب«الديمقراطية التوافقية» التي تعني في التطبيق العملي، تمثيل كل المكونات السياسية وبالطبع من كل الطوائف في الحكومة الواحدة.
وهذا يترجم في الواقع العملي حكومة بمثابة برلمان مصغر لا يمكن للبرلمان الأكبر أن يحاسبها؛ لأن كل الكتل متمثلة في الحكومة. وبات التوازن الداخلي هشاً إلى درجة أن أي إقصاء لطرف سياسي، يخلق مشكلة جدية تحول دون الاستقرار.
وعلى هذا، فإن لبنان لم يعد قادراً على تشكيل حكومات من لون سياسي واحد فتتعطل عجلة العمل والحركة، ولا تستطيع حكومة الديمقراطية التوافقية الإقلاع والعمل في حال اعترض حتى طرف واحد ممثل فيها على أي مشروع؛ بل إن أي مشروع رهن بتوافق الجميع الذين هم في الأساس من مشارب وأهواء وانتماءات مختلفة ومتناقضة.
وهذه محنة لبنان الوطن الجميل الذي تنهش تطوره وتقدمه واستقراره وتحاصره تدخلات خارجية صلفة، ونزعات طائفية معطلة؛ الأمر الذي لا يبدو في المدى المنظور أنه سيستطيع التحرر منه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"