حوار العصر: الأغلبية والشأن القبطي

05:09 صباحا
قراءة 5 دقائق

لقد عُنيت بالشأن القبطي على امتداد خمسٍة وثلاثين عاماً مضت منذ بدأت كتابة أطروحتي للدكتوراه من جامعة لندن حول موضوع الأقباط في السياسة المصرية، وما أكثر ما كتبت وتحدثت وتحاورت حول هذا الشأن لكنني وللمرة الأولى أشعر بانزعاج حقيقي وقلق شديد، فقد توهمت لمدة طويلة أن الدنيا قد تحولت والأفكار قد تغيرت وأصبحنا نعيش العصر الذهبي الثاني للوحدة الوطنية المصرية بعد عصر ثورة 1919. ولقد كان دافعي للوصول إلى هذا التصور هو شعوري وهذا حقيقي أن الأغلبية المسلمة قد بدأت تتبنى معظم مطالب الأقباط العادلة أي أن القضية لم تعد مسألة قبطية، ولكنها أضحت قضية عامة مصرية بالمقام الأول، وهذه إيجابية مهمة لا يجب إغفالها، إذ إنها تعني تماسك الجبهة الداخلية ورسوخ الوحدة الوطنية برغم كل مظاهر الفتنة وأسباب الخلاف الذي لا مبرر له، وأسمح لنفسي كمصريٍ قبل كل شيء بأن أتطرق إلى هذا الموضوع في تجرد وموضوعية خصوصاً أن الملف القبطي مفتوح منذ سنوات، وفي رأيي، فإن فتح الملفات في شفافية وعلانية يمثل أكثر من نصف الطريق للوصول إلى حلولها النهائية، وسوف أطرح أفكاري بإيجاز في هذا الشأن من خلال النقاط الآتية:

أولاً: إنني لا أتصور أن يعاقب قبطي لأنه يريد أن يمارس شعائر دينه ولا يجد كنيسة قريبة منه فيلجأ إلى أحد البيوت ليجتمع فيها مع أبناء دينه يتعبدون في هدوء، وبالمناسبة فإن مكان إقامة الشعائر هو دور العبادة، وأنا أعلم أن نسبة كبيرة من الكنائس لا تملك ترخيصاً حتى الآن، لذلك فإن البداية يجب أن تكون بتقنين أوضاعها في إطار قانون موحد لدور العبادة وهو ذلك القانون سيئ الحظ الذي طال انتظاره وتعطل لأسباب غير مفهومة، مع أن المجلس القومي لحقوق الإنسان قد أعد مسودته مرات، كما أن اللجنة المعنية في مجلس الشعب قد تقدمت به ولكن جرى تأجيله بدعوى المواءمة وهي عبارة خطيرة بل وقاتلة، لأنها تعطل التطور وتوقف التقدم وتستسلم لابتزاز القوى الأخرى، ومثل هذا القانون إذا صدر سوف يرفع عن كاهل الدولة عبئاً كبيراً ويرضي جميع الأطراف، على اعتبار أن عدد الكنائس سوف يكون بنسبة واحد إلى عشرة من المساجد المسجلة في الدولة، وبذلك يخرج الجميع من عنق الزجاجة، خصوصاً أن ما سمي الخط الهمايوني قد تم رفضه ودفنه في ذمة التاريخ منذ سنوات.

ثانياً: إنني أظن وليس كل الظن إثم أن الأقباط يتميزون بشيءٍ من السلبية فرضتها عليهم أحقاب تاريخية وظروف سياسية، لذلك فإن إقدامهم على الكوادر الخاصة والوظائف الحكومية لا يكون بمعدل أقرانهم من المسلمين، وهذه نقطة تحتاج إلى علاجٍ حقيقي، لأن ثقة الأقباط المفقودة في سيادة القانون وتطبيق العدالة وإعمال مبدأ المواطنة هي التي تقف وراء هذا الشعور السلبي الذي يجب أن تسعى الأغلبية المسلمة وأجهزة الدولة المختلفة لإزالته تماماً من العقل القبطي، ولقد لاحظت شخصياً أن عدد المتقدمين على سبيل المثال لامتحان السلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية من الأقباط عدد محدود للغاية، حتى إن اللجان المعنية بالاختبارات تبحث عن عناصر مؤهلة منهم تتقدم للامتحان التحريري، وقد طلب وزير الخارجية الحالي من معاونه السفير رؤوف سعد وهو قبطي متميز عمل سفيراً لمصر في بروكسل وموسكو أن يدعو أبناءنا وبناتنا الأقباط من خلال تجمعاتهم الشبابية للتقدم لامتحانات السلك الدبلوماسي إذا ما توافرت لديهم الكفاءة والاستعداد لذلك، أي أن المشكلة تكون أحياناً وليس دائماً هي سلوك قبطي موروث يتشكك في إمكان حصوله على حقه.

ثالثاً: إنني أزعم وبنفس الموضوعية والتجرد أن كثيراً من الأقباط الذين يتحدثون عن الاضطهاد يستخدمون ذلك ذريعة أحياناً للحصول على ما لا يستحقون عندما يتحدث بعضهم عن فرص ضائعة في التعيين أو الترقية، مفسرين ذلك بانتمائهم الديني من دون النظر إلى مستوى كفاءتهم وقدراتهم الوظيفية، وهذه عملية ابتزازٍ تتكرر أحياناً، ولكن ذلك لا ينفي أن عامل الدين لا يزال يلعب دوراً سلبياً أمام الأقباط على نحو يحرمهم في بعض المناسبات التمتع بتكافؤ الفرص المتاحة أو الحصول على المفهوم الكامل للمواطنة، وهذه ظاهرةٌ أليمة تجاوزتها المجتمعات المتحضرة وينبغي أن يبرأ منها المصريون تماماً.

رابعاً: إنني أزعم أيضاً أن هناك مبالغة لدى كثيرٍ من الأقباط في الحديث عما يسمى خطف الإناث وإجبارهم عنوة على اعتناق الإسلام بضغوط الزواج وغيره من أسباب الإغراء، وهذه نقطة تستحق المعالجة الحكيمة، لأن الأمر يحدث من الجانبين، ولعلي لا أذيع سراً إذا قلت إن هناك حالات مماثلة لفتيات مسلمات تزوجن من أقباط وهربن معهم إلى الخارج وقد تحول بعضهن بالفعل إلى المسيحية، ولكن العائلات المسلمة تتكتم على هذه الموضوعات لأسباب دينية واجتماعية، وأنا أقول صراحة إنه لا يمكن أن تتحول كل قصة حب بين شاب وفتاة مختلفي الديانة وبالغي سن الرشد إلى فتنة طائفية وأزمة دينية، أما إذا كانت الأنثى قاصراً فتلك جناية يخضع فاعلها لقانون العقوبات الذي يطبق على المصريين بلا استثناء.

خامساً: إنني أشعر بانزعاج شديد عندما يلجأ الأقباط في أزماتهم إلى الكنيسة ويلوذون بقداسة البابا، وعندما يتجمهر المسلمون بعد صلاة الجمعة في الأزهر الشريف لأسباب مماثلة فإن انزعاجي يتضاعف، وأريد أن أقول لهؤلاء وأولئك إن مصر ليست دولة دينية، ولكنها دولة مدنية يقودها دستور ويحكمها قانون، فإذا ألم بقبطي أو مسلم مكروه، فإن عليه أن يسعى إلى بوابة البرلمان أو دار القضاء العالي أو قصر عابدين فتلك هي رموز السلطات الدستورية الثلاث على اعتبار أن رئيس الجمهورية هو رئيس السلطة التنفيذية في ذات الوقت، كما أن اللجوء إلى الصحافة أمر مقبول فهي سلطة رابعة تكشف الفساد وتنتصر للمظلوم وتحترم مبدأ المواطنة.

سادساً: يبدو لي دائماً أن صورة ما يجري في الوطن مغلوطة أحياناً ومبالغ فيها دائماً أمام الأقباط والمسلمين في الخارج على السواء، فهناك قصص وهمية وأخبارٌ كاذبة وعمليات شحن لا أرى أن جهات أجنبية بعيدة عنها، فمصر دائماً مستهدفة وجبهتها الداخلية موضع حسد من الغير، ولقد أتاحت لي الظروف منذ سنوات أن أعقد ثلاثة لقاءات حاشدة مع المصريين في نيويورك وواشنطن ومونتريال في ثلاث ليال متتالية وأذهلني سوء الفهم وقصور الرؤية لدى الكثيرين، لكنني لاحظت أيضاً أن هناك عناصر قبطية وأخرى مسلمة تتسم بالرشد والحكمة والشفافية، وها أنا أتأهب للذهاب في رحلة عمل إلى العاصمة الأمريكية، وسوف تتيح لي الظروف أن أرى تجمعات المصريين هناك، وأن أستمع من الإخوة الأقباط، وأن أتحدث إليهم لكي يدركوا أن أبناء الوطن الواحد يحملون نفس المشاعر والأفكار.

سابعاً: إنني لا أزعم أن الصورة وردية أو أن الوحدة الوطنية بخير، ولكنني أذكر أشقاءنا الأقباط بأن بعض مشكلاتهم قد جرى حلها، فالسابع من يناير (الكريسماس القبطي) قد أصبح عطلة رسمية يعرف فيها الطفل محمد أن ذلك عيد زميله في المدرسة الطفل مينا فيشبان معاً على فهم الآخر وحب الوطن، كما أن مسألة الأوقاف القبطية قد أخذت طريقها إلى الحل النهائي، كذلك فإن بناء الكنائس رغم صعوبته في ظل شعار المواءمة المزعوم قد بدأ يتحسن تدريجياً ويبدو أيسر بكثير من عقدين ماضيين، كما أن الجانب التعليمي والثقافي والإعلامي قد بدأ يستوعب الوجود القبطي ويدرك مفهوم المساواة ومعنى المواطنة.

تلك هي مصر الشعب الواحد المتجانس الذي انتفض بمسلميه ومسيحييه عندما لم يلقَ البابا شنودة الثالث المعاملة التي تليق بمقامه في مطار هيثرو بلندن، وهو أيضاً الشعب المصري الواحد المتجانس الذي انتفضت كنيسته القبطية عندما ذبح متطرف إرهابي الشهيدة مروة الشربيني في ساحة المحكمة قرب العاصمة الألمانية. ألم أقل لكم دائماً إنها مصر مربية الزمان، وحاضنة المكان، وملاذ الإنسان؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"