دبلوماسية فرنسية عاجزة ومترددة

01:07 صباحا
قراءة 3 دقائق
ينتاب الفرنسيين شعور عام بأن بلادهم أضحت تفتقر إلى سياسة خارجية واضحة . من أين يأتي هذا الشعور؟
في تسعينات القرن المنصرم فشلت الدبلوماسية الفرنسية في الاتفاق مع نظيرتها الألمانية على انفجار يوغوسلافيا، هذا البلد الذي ولد في مؤتمر السلام في باريس العام 1991 . لكن دبلوماسية فرانسوا ميتران تمكنت من أن تسجل لنفسها نجاحاً باهراً هو توقيع معاهدة ماستريخت، إلى جانب المستشار الألماني هلموت كول، في العام ،1992 والتي أسست للعملة الموحدة (اليورو) التي وضعت في التداول انطلاقاً من مطلع الألفية الجارية . منذ ذلك الوقت أخذت السياسة الخارجية الفرنسية تفقد شيئاً فشيئاً خصوصيتها ونظرتها الخاصة للعالم وبالتالي طموحها الذي طالما تميزت به في عهد الجنرال ديغول وبعده بسنوات قليلة . لقد خطفت السياسات الداخلية الاهتمام من الفعل الخارجي الذي صار يتعاطى مع الأمور من منظور الأمد القريب والمباشر في بعض الأحيان . لقد باتت تفتقر إلى الثبات والاستمرارية . لهذا أضحت غير واضحة بالنسبة للمواطن الفرنسي كما للكثير من المراقبين الأجانب .
سياسة باريس الأوروبية الحالية تتميز بالتردد والتخبط إلى درجة أن المفوض الفرنسي في بروكسل اضطر مؤخراً أن يلفت نظر حكومته، وبشكل علني، إلى وجوب احترام الالتزامات التي اتخذتها بنفسها . فقاعدة عدم تخطي العجز الخزيني لنسبة الثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي كشرط للانضمام إلى العملة الموحدة، وضعتها باريس بنفسها وفرضتها على الآخرين، لكنها لم تعد تلتزم بها، بل إن الرئيس شيراك كان أول من خرق هذه القاعدة في أوروبا .
ويتذمر الفرنسيون من رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروسو ويقولون إنه يفتقر إلى الكفاءة التي كان يتمتع بها جاك دولور (رئيس المفوضية الأسبق والذي كان وزيراً للمالية في عهد الرئيس ميتران) . لكنهم هم الذين جهدوا للتجديد له في العام 2009 على رأس المفوضية . المديوقراطية (ظاهرة الضحالة وعدم الكفاءة) هي السياسة التي تعتمدها العواصم الأوروبية الكبرى التي تقوم بتسمية أشخاص غير لامعين على رأس المؤسسات الأوروبية وذلك بهدف السيطرة عليهم وضمان ولائهم . و"هذا ما لا يليق بفرنسا البلد العريق والكبير الذي يعتبره المؤرخون، وبفضل رجالات مثل مونيه وشومان وديغول، المؤسس الحقيقي لأوروبا الموحدة" . هذا ما يقوله أحد المراقبين الفرنسيين الذي ينتقد بالمناسبة موافقة المسؤولين في بلاده على تسمية كاترين اشتون، في العام ،2009 رغم علمهم المسبق بقدراتها المحدودة على إدارة منصب ينبغي على من يحتله أن يتمتع بالكثير من الخبرة والكفاءة والكاريزما .
في عهدي جيسكار ديستان وميتران كان هناك سياسة خارجية واضحة ومحسوسة حيال ألمانيا . لم تعد هذه هي الحال في عهدي ساركوزي وهولاند رغم أنهما تعمدا السفر إلى برلين فور وصولهما إلى الاليزيه بهدف التأكيد على رمزية وتميز العلاقة بين البلدين . لكن الرموز لم ترافق الافعال، فساركوزي رفض الالتحاق بمشروع الإصلاح الذي وضعه المسشار شرودر وتابعته أنجيلا ميركل . وهولاند بدوره لا يبدو مرتاحاً البتة في علاقته مع ميركل رغم كل الاحتفالات المتكررة بالمحور الجديد الفرنسي الألماني، المولود بعد الحرب العالمية الثانية، والفرنسيون يأنفون الاعتراف بحقيقة أن النموذج الاقتصادي الألماني نجح في حين فشل نظيره الفرنسي .
وفي أحد الأيام تقرر باريس إرسال كتيبة عسكرية متواضعة إلى أفغانستان لمساعدة حلفائها الأمريكيين ثم بعد ذلك بقليل تقرر سحبها بعد أن تبين لها بأن من المستحيل تحقيق السلام في هذا البلد .
الجنرال ديغول علّم الفرنسيين بأن يكونوا حلفاء حقيقيين وليس مجرد تابعين للولايات المتحدة . أما اليوم فتبدو فرنسا أقرب إلى التابع منه للحليف حيال الولايات المتحدة . وفي الصراعات التي تعجز واشنطن عن حلها فلا تبدو باريس وسيطاً بديلاً، وأبرز الأمثلة على ذلك الصراع الفلسطيني "الاسرائيلي" . وقد قامت واشنطن بترتيب علاقتها مع طهران من دون أن تستشير باريس . وفي الأزمة السورية تسير باريس خلف واشنطن بشكل مريب بل معيب بدليل أن هولاند بعد أن جمع قيادة أركانه العسكرية استعداداً لقصف دمشق سارع إلى التراجع بمجرد أن تراجع الرئيس الأمريكي أوباما عن هذا القرار .
لكن ينبغي القول من الناحية المقابلة بأن الرئيس هولاند عندما قرر التدخل عسكرياً في مالي ثم في إفريقيا الوسطى صفق له الجميع في باريس أولاً ثم في العواصم الغربية الأخرى لاسيما واشنطن، ناهيك عن العواصم الإفريقية المعنية بالصراع . رغم ذلك فان التدخل العسكري الفرنسي لم ينجح في إيجاد حلول للصراعات الإفريقية ولو أنه أوقف مؤقتاً حمامات الدم هناك .

د . غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"