دفاع عن أوروبا.. شفقة أم اقتناع؟

03:13 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

سئلت عن سبب إكثاري من الكتابة عن أوروبا، أجبت، وبدون كثير تردد، قلت أكثرت لأنني من المؤمنين بمركزية أوروبا. مركزية طويلة العهد في النظام الدولي الذي تقاعد مؤخراً وفي النظام الذي سبقه، وأي نظام وجد قبلهما، وكذلك في النظام الجاري حاليا التفكير فيه والاستعداد له. قلت أيضا، وحتى لو تغافلنا عن هذه المركزية في تاريخها الممتد عبر الزمن وتأملنا قليلاً في نمط التطورات الراهنة في العلاقات بين الدول الكبرى وبينها وكثير من الدول الأصغر، واقتفينا آثار حركة الشعوب في آخر مراحلها لوجدنا أكثر المؤشرات تتوجه في شكل تدفقات مباشرة قادمة من الجنوب عابرة البحر المتوسط ومن الشرق عبر اليابسة ومن الغرب عبر الأطلسي. نجدها تتوجه في عكس توجهها في معظم، إن لم يكن كل، عصور التاريخ المسجل للحضارة الإنسانية.
أنا وكثيرون غيري لنا كتابات تكشف عن أننا صرنا نرى أوروبا في الظروف الراهنة ضعيفة ضعفا ملموسا. نراها أقل منعة في مواجهة غزوات ثقافية وتجارية وسياسية تشن عليها في وقت واحد من نقاط في أقصى الشرق وأخرى في أقرب الشرق. رأيتها خلال الشهور الأخيرة تراجع نفسها، وقد اتضحت احتمالات مستقبل تغيب فيه القيادة الأمريكية عن مباشرة مسؤولياتها الأمنية في العالم الغربي، وتختفي عنه بعض أهم قواها الناعمة، وتعود معه بعض أسباب العنف والاقتتال، اللذين اشتهر بهما تاريخها الممتد. لا بد أن أضيف هنا أنني خرجت من جولة تأملاتي أشد اقتناعا بأن أوروبا وإن كانت مريضة فإنها لاتزال تحتفظ بقوة جذب جيوسياسية هائلة.
لم أكن وحدي، كانت معظم مراكز البحث الأوروبية تسعى في الاتجاه نفسه، ومعها إعلاميون كثيرون. كلهم راحوا يقيسون مساحة الضرر الذي أصاب أوروبا، واحدة منهم صاغت عنواناً واضحاً ومباشراً لسؤال يمكن أن تجتمع في مضمونه مؤشرات عديدة، صاغته الباحثة والصحفية جودي ديمسي في الكلمات الثلاث التالية «هل انكسرت أوروبا؟»، ووجهته إلى عدد كبير من المتخصصين في الشأن الأوروبي والخبراء في حقل العلاقات الدولية، مع طلب الإجابة عنه بإيجاز وصدق. قرأت الإجابات، كلها فيما أتصور. وجدت ما يشبه الإجماع على تسجيل عبارة «لا.. أوروبا لم تنكسر»، تلحق بها فورا والتصاقا كلمة «ولكن». أرادوا بكل ما قيل أو كتب بعد كلمة ولكن، أن يعلنوا بالتلميح أن أوروبا لم تنكسر. أوروبا في نظر محبيها وعشاقها وخبرائها لم تنكسر، أوروبا معطوبة أو مصابة أو ضعيفة أو مريضة أو مضغوطة أو مقصرة أو عند مفترق طرق أو متحولة أو مأزومة أو غير واثقة أو فاقدة الثقة، اختر ما شئت من صفات، ولكنها لم تنكسر.
أنقل فيما يلي ملخصاً لبعض ما ذكره الخبراء كتحليل وتوصيف للحالة الأوروبية الراهنة من خلال إجاباتهم عن السؤال، هل انكسرت أوروبا؟
قالت خبيرة تدعى إليزابيث براو، إن أوروبا لم تنكسر والصف طويل تصطف فيه دول تريد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. مشكلة أوروبا، في رأي براو، تكمن في أمرين: أولهما توقعات الشعوب الأوروبية وحلفائها منها، وأقصد من أوروبا الحلم والواقع والأمر الثاني يجسده انخفاض معدل سرعة الاندماج والتكامل.
أما الخبيرة السويدية مارجريتا سيديفيلت، فتقول هي الأخرى إن أوروبا ليست منكسرة ولكنها تحت الضغط. تأتي الضغوط من تدفقات الهجرة ومن التهديدات الروسية للاتحاد الأوروبي.
يقول أنجيلوس كريسيلوس عن أوروبا، إنها قد تكون منكسرة ولكن هذا لا يعني أنها ستنفرط قريبا. أوروبا تعاني عجزاً في السياسات وفي التمثيل. فشلت في مجالات عديدة. فشلت في وضع سياسات مناسبة للتعامل مع اللاجئين وفي تخصيص حصص لدول في مسألة الهجرة.
بال جونسون السويدي يعتقد هو الآخر أن أوروبا لم تنكسر، ولكنها تتعرض لثورة مضادة للنظام الليبرالي العالمي بشكل عام وهي نفسها أحد أهم أهداف هذه الثورة.
الخبيرة البلجيكية ياسمين خرباش، تعتقد مثل غيرها من الخبراء أن أوروبا لم تنكسر، وإن قصرت في تحقيق توقعات الشعوب.
«أوروبا لم تنكسر»، بل إنها من نواحٍ عديدة أحسن حالاً من أي وقت مضى، جاء وقت كان الشيوعيون يحصدون حوالي 30% من أصوات الناخبين، ثم جاءت الحركات الراديكالية تهز أركان الاستقرار في إيرلندا وإيطاليا وألمانيا واليونان على امتداد الفترة بين السبعينات والتسعينات من القرن الماضي.
أما إيفان فيزفودا فيقول: لقد انقضت مرحلة التدليل لأوروبا، وحان وقت الاعتماد على النفس. أوروبا تقدمت ونمت في ظل مظلة الأمن التي وفرتها أمريكا، وهي الآن تسحبها. واقع الأمر في قضية انكسار أو عدم انكسار أوروبا يرتبط بتطورين على أقصى درجة من الأهمية، الأول صعود ترامب والثاني خروج بريطانيا.
كنت أقرأ ما سطره خبراء أوروبيون، دفاعاً عن الاتحاد الأوروبي وكلي أمل ورغبة في أن أرى عندنا جهدا مماثلا للدفاع عن جامعة الدول العربية. وأسأل نفسي مرة أخرى لماذا لا أجد عربا بهذا العدد يدافعون بهذا الصدق وبقدر معقول من الأمانة عن الجامعة العربية. انكسر العمل العربي المشترك فهل من مدافع يصرخ بصوت عالٍ أو حتى يهمس في أذني، «لا لم ينكسر». الحلم العربي غاب عنا في صحونا ونومنا. زهق وتبخر فلن يعود. أم أنه يوماً سيعود؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"