ربع قرن على معاهدة ماستريخت

04:31 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي
في السابع من فبراير/شباط من العام 1992، في بلدة ماستريخت الهولندية الوديعة القريبة من الحدود مع بلجيكا، وقعت اثنتا عشرة دولة عضوة في «المجموعة الاقتصادية الأوروبية» معاهدة «الاتحاد الأوروبي»، بهدف التأسيس لاتحاد نقدي واقتصادي يتطور ليكون سياسياً ودفاعياً مع احتمال أن يتطور، بحسب طموح بعض الأعضاء، إلى فيدرالية تشبه الولايات المتحدة الأمريكية. هذه المعاهدة وضعت قواعد وأسس العملة الموحدة التي سترى النور بعد عشر سنوات على ولادة الاتحاد، على حساب العملات المحلية التي ستختفي من الوجود.
وراح الاتحاد الجديد يتوسع بانضمام أعضاء جدد (ليصل العدد إلى سبعة وعشرين عضواً) ويحقق الإنجاز تلو الآخر في كل المضامير، الجمركية، والنقدية، والتشريعية، والهيكلية التنظيمية، وغيرها، ما عدا السياستين الخارجية والدفاعية، حيث إن جل ما تم إنجازه هو خلق وظيفتي رئيس للاتحاد، ومنسق لسياسته الخارجية، وهو إنجاز اقتصر على الشكل دون مضمون حقيقي.
اليوم بمناسبة مرور ربع قرن بالتمام والكمال على معاهدة ماستريخت، وعقد ونصف العقد على ولادة العملة الأوروبية الموحدة اليورو، يلاحظ المراقب أن الأوروبيين لم ينظموا الاحتفالات الكبرى بهذه المناسبة التي غيرت وجه أوروبا ومسار العلاقات الدولية. لقد مرت الذكرى في ظل قناعة سائدة بأن ثمة مشكلة حقيقية في البناء الأوروبي، وبأن الوعود بالاستقرار والنمو والازدهار التي حملها الآباء المؤسسون لم تتحقق، بل إن الأزمة هي التي تبسط نفسها في اتحاد بات يعاني أزمة هوية، ويتساءل عن قدرته على الديمومة والحياة، وتشهد التيارات والأحزاب الداعية لتفكيكه صعوداً ملحوظاً.
المشككون يطالبون بالخروج من الاتحاد، على غرار «البريكست»، ومن اليورو، من أجل السماح للحكومات باستعادة سيطرتها على ميزانياتها. المتشددون، لا سيما الألمان، يؤيدون تطبيق قواعد ماستريخت بدقة وصرامة من قبل الجميع، حتى لو تطلب الأمر تشديد العقوبات على المخالفين. وهناك تيار ثالث فيدرالي يطالب بتبسيط الإجراءات المتعلقة بميزانيات الدول وإنشاء صندوق أوروبي لمساعدة الدول الواقعة في أزمة. دول الجنوب الأوروبي (فرنسا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا واليونان) تدعو، كما فعلت في قمتها الأخيرة في لشبونة، إلى بناء منطقة يورو أكثر تضامنية تتجه صوب النمو والاستثمار بديلاً عن التقشف وضبط الموازنات.
وعلى الرغم من وفائها المعلن للمعاهدة الاتحادية المؤسسة، فإن دولاً مثل فرنسا وألمانيا لم تتمكن من احترام معايير ماستريخت: مثل عجز الميزانية الذي ينبغي ألا يتخطى 3 %، والدين العام الذي يجب ألا يزيد على 60 % من الناتج الإجمالي القائم. إذ بلغ الدين العام الفرنسي نحو 80 % من الناتج الداخلي الإجمالي في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، بحسب الأرقام الرسمية. وفي هذا المجال يتفق الاقتصاديون على أن معاهدة ماستريخت أخطأت في فرض المعيارين المذكورين على دول منطقة اليورو، مع فرض نسبة نمو سنوي تبلغ 5 % (بعد احتساب نسبة التضخم)، فما حصل هو أن هذه النسبة لم تتحقق البتة، بل إن دولاً، مثل إيطاليا والبرتغال واليونان، لم تعرف نمواً إيجابياً منذ العام 2000، وعندما وصلت الأزمة الاقتصادية والمالية من الولايات المتحدة في العام 2008 لتضرب العالم ومعه أوروبا، فإنها ضربتها بشكل غير متساو، بمعنى أنها أصابت دولاً أكثر مما أصابت أخرى، فوضعت التضامن الأوروبي أمام تجربة شديدة الصعوبة.
أزمة أخرى وضعت التضامن الأوروبي أمام المحك، هي أزمة المهاجرين من شمالي إفريقيا، وسوريا ودول عربية وإسلامية أخرى، بعد «الربيع العربي». فإذا كانت المستشارة ميركل من مؤيدي استقبال اللاجئين، إلا أن دولاً أخرى لا تشاطرها هذا الموقف، في حين أن أحزاباً وحركات، بل وحكومات، مثل بولونيا وهنغاريا وتشيكيا، لا تريد استقبال مهاجرين. وفرض «كوتا» معينة على الدول الأوروبية كان من شأنه تقديم بضاعة تتاجر بها الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة الرافضة لمعاهدة ماستريخت منذ البداية.
ويلتقي التطرف اليميني واليساري في رفض المشروع الأوروبي. حجة اليمين معروفة، أما حجة اليسار الراديكالي فهي أن أوروبا رأسمالية ليبرالية مفرطة تقاد من بيروقراطية بروكسل، بعيداً عن هموم الطبقات الشعبية التي فقدت قدراتها الشرائية، وزادت فقراً وحرماناً.
يقول المشككون في اليورو إن الخروج منه يتيح للحكومات تخفيض قيمة عملتها، وأن تكون حرة في إحداث عجز خزيني. لكن يرد عليهم المؤيدون لليورو بالقول إن تمويل العجز العام يكلف أكثر بكثير: أكثر من 30 مليار يورو سنوياً على المدى الطويل، في حالة فرنسا على سبيل لمثال.
وفي بداية ديسمبر/كانون الأول الماضي حذر رئيس المفوضية الأوروبية جان-كلود جانكر دول الاتحاد الأوروبي التي تشعر بإغراء الخروج من الاتحاد بالقول «نحن اليوم جزء مهم من الاقتصاد العالمي، 25% من الناتج الداخلي الإجمالي، وفي عشر سنوات 15%، وبعد عشرين عاماً لن تكون أي دولة أوروبية عضواً في جماعة السبعة». هذا ما يتوقعه هذا الأوروبي المقتنع بضرورة توثيق عرى الاتحاد والتضامن بين الدول الأوروبية، بديلاً عن الأنانيات الوطنية.
المشروع الأساسي للمجموعة الاقتصادية الأوروبية العام 1957 كان محدوداً بإقامة «سوق مشتركة» اقتصادية من أجل تكريس المصالحة الفرنسية الألمانية ما بعد الحرب العالمية الثانية. طموح معاهدة ماستريخت كان الاستحواذ على سياسة هجرة وشرطة وجيش موحد.
اليوم بعد كل هذه السنين والتجارب، فإن الانتخابات، المزمع تنظيمها خلال العام الجاري في هولندا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا، تجري في أجواء مشكّكة في جدوى البناء الاتحادي الأوروبي. ويزيد «البريكست» البريطاني وموقف ترامب المعادي للوحدة الأوروبية من حدة هذه الشكوك.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"