رد الاعتبار للسياسة

02:38 صباحا
قراءة 3 دقائق

ممارسة السياسة كأساليب تقنية بحتة، تتبدل بتبدل الظروف وتغير الألبسة والأقنعة حسب الكرنفالات، وتمارس البراغماتية الانتهازية باسم الاعتدال والتسامح والأخذ والعطاء، وذلك من دون خلفية فلسفية ومنظومة فكرية وأخلاقية تحكمها وتضبطها وتحدد لها خطوطاً حمرا لا تتخطاها.. ممارسة السياسة بهذا الشكل المزري هي التي قادت إلى ضياع الاعتبار والاحترام لحقل السياسة عبر الأرض العربية كلها، خصوصاً في العقود الأربعة الماضية.

تلك الممارسة تبقى تجزيئية متناثرة ومؤقتة، لا امتداد لها في التاريخ ولا اهتمام لها بالمستقبل البعيد، وإنما تعيش متطلبات الحاضر، بل املاءات اللحظة. مثل هكذا ممارسة غير قيمية ما كان لها إلا أن تفرز قادة رسميين بهلوانيين وممارسين في فضاء المجتمع المدني السياسي غير فاعلين وغير مسموعين وغير حاملين لخطاب يحرك أنبل وأصلب ما في الإنسان العربي العادي. وهكذا غاب وهج ظهور قيادات تاريخية، بينما نبتت في بلدان ومدن وقرى وحواري العرب فطريات قيادية تعيش على فتات المذهبية والقبلية والعائلية والعرقية والارتهان لقوى الخارجية الامبريالية والعولمية الفجة.

ولا شك أن الثقافة العولمية الجديدة في محاولتها المستمرة لتهميش السياسة في حياة الفرد لحساب الاقتصاد والمال والاستهلاك النهم، قد ساهمت في جعل الممارسة السياسية في كل مكان لا تزيد على تطبيق لطرق ووسائِل تقنية بيروقراطية لا ارتباط لها بالأفكار والمبادئ الكبرى وبعيدة عن الالتزام بثوابت وطنية وقيمية. وهكذا تجمعت كل الظروف الداخلية والخارجية المؤاتية لإعلان موت الإيديولوجيات السياسية الكبرى بأهدافها وأحلامها.

مناسبة طرح هذا الموضوع ما يجري في الساحة اللبنانية بعد النجاح الباهر الذي حققته القيادة السياسية في قطر الشقيقة من إقناع كل الأطراف السياسية اللبنانية بالتوقيع على اتفاق متوازن وقابل للحياة. فما أن رجعت الوفود إلى بيروت حتى ارتفعت الأصوات العربية الليبرالية الأصولية المتأمركة بوضع المقاومة الوطنية اللبنانية تحت المساءلة الخبيثة والمطالبة، باسم الدولة المنهكة العاجزة المسلوبة الإرادة، بتجريد المقاومة من سلاحها. إن هذه الأصوات والمؤسسات السياسية الناشزة تظهر بجلاء كيف أن غياب الخلفية الفكرية والأخلاقية التي تحكم ممارسة تلك الجهات للسياسة تجعلها تنحاز من دون أدنى تردد ضد المقاومة بل وتنخرط في المشروع الأمريكي الصهيوني الهادف لتهميش المقاومة، ثم القضاء عليها. كيف ذلك؟

* أولاً: لو كان الذي يحكم هذه الأصوات والقوى ثوابت وطنية وقومية لعرفوا أن المحافظة على سلاح المقاومة هو خط أحمر مقدس في الظروف اللبنانية والعربية الحاضرة. فوجوده وحده هو الذي يمنع الصهيونية من اجتياح لبنان أو ابتزازه ليصبح الحكم فيه طيعاً خانعاً كما فعلت مع آخرين عرب معروفين. بل لنقل أكثر من ذلك: إن سلاح المقاومة اللبنانية هو أهم عامل في توازن الرعب بين العرب والمسلمين من جهة والمشروع الأمريكي الصهيوني من جهة أخرى. بل إنه من أهم العناصر في مساعدة المقاومتين الفلسطينية والعراقية على الصمود في وجه الاحتلال الصهيوني وفي وجه الاحتلال الأمريكي.

* ثانياً: لو أن هاجس الصراع العربي الصهيوني، على مستوى الايديولوجيا ومستوى التاريخ ومستوى التهديد الدائم لكل الأهداف العربية في الوحدة والنهوض، يكوِّن خلفية فكرية فلسفية أخلاقية لعمل تلك الأصوات والحركات النشاز في السياسة لأدركوا أن سلاح المقاومة في لبنان وغيره يجب أن يبقى حتى انهيار المشروع الصهيوني الأمريكي أو قيام نظام إقليمي سياسي عسكري اقتصادي قادر على حماية الأمة من الأخطار المحيطة بها.

رد الاعتبار للسياسة في أرض العرب، بانتقالها من ممارسة تقنية محايدة بيروقراطية إلى ممارسة سياسية وفكرية وأخلاقية شاملة، هو وحده الكفيل برد الاعتبار إلى منهج وثقافة المقاومة. عند ذاك سترتاح جثث الشهداء الأبطال في قبورها وهي ترى أن تضحياتها لم تضع هباء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"