رمزية الألقاب في كل الأحقاب

03:38 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

كانت تستهويني، كثيراً، الألقاب المتداولة قبل ثورة يوليو 1952، فهذا (صاحب المقام الرفيع)، وذاك هو (الرئيس الجليل)، وثالث هو (المجاهد الكبير)، إضافة إلى عبارات أخرى مثل (دولة الرئيس) و(رفعة الباشا) و(صاحب العزة) وصولاً إلى (صاحبة العصمة)، وغير ذلك من الألقاب التي جرى تداولها في مصر على امتداد قرن ونصف القرن أو يزيد، ثم جاء قرار ثورة يوليو بإلغاء الألقاب، واستبدال كل هذه العبارات بكلمة السيد، ولم تكن تلك الكلمة وحدها كافية لتشفي غليل من لديهم تصورات تاريخية أو أوهام شخصية، فإذا كانت هذه الألقاب هي ميراث تركي إلّا أنها مثل غطاء الرأس (الطربوش) الذي كان هو الآخر علامة ل(الأفندي) و(البك) و(الباشا)، ولقد كنت أتخيل نفسي وأنا طفل، كلما رأيت المغازي باشا أو سمعت عنه أتوهم أنني يمكن أن أتوسم خطاه وأن أحمل لقباً ذات يوم. ففي السلكين العسكري والقضائي كان الوصول إلى درجة معينة يعطي درجة البكاوية ثم الباشاوية، ومازلنا نذكر أن القائم مقام كان بك (درجة ثانية) والأميرالاي بك (درجة أولى) واللواء باشا بقوة القانون العسكري، ونفس الأمر في القضاء بدرجاته المختلفة.
كما حمل بعض السفراء درجة البكاوية والباشاوية أيضاً، ولقد كنت أسأل أبي كثيراً لماذا يختص النحاس باشا ومن قبله سعد زغلول باشا بلقب (الرئيس الجليل) ويستأثر مكرم عبيد بصفة (المجاهد الكبير)؟! ثم شعرت بفخامة عبارة صاحب المقام الرفيع، والمؤسف أن الثورة عندما ألغت الألقاب، ومعها غطاء الرأس (الطربوش) لم نجد لهما بديلاً، حتى استعاد المصريون بشكل تلقائي لقبي بك وباشا في كل المناسبات تقريباً، وكأنما كان الإلغاء ورقياً فقط، ولم يكن فعلياً أبداً، كما أن المصريين ظلوا بغير غطاء رأس يحميهم من حر الصيف وبرد الشتاء، ويخفي الرأس الصلعاء، ويعطي لصاحبه رونقاً ودلالاً، فطربوش عبدالرحمن باشا عزام مندفع إلى الوراء، وطربوش حافظ عفيفي باشا يميل إلى الجانب الأيمن، وقس على ذلك تعدد الأمزجة والأهواء.
فلقد كانت تلك هي (إكسسوارات) ذلك العصر، إلى جانب عمامة الشيخ البيضاء حول طربوشه الأحمر وقلنسوة القسيس السوداء، تمييزًا له بين الرهبان، لقد كان عصراً غنياً بالمعاني، ثرياً بالألقاب، ومازلت أذكر أن النحاس باشا فاجأ الملك فاروق بعد انتخابات 1950 واكتساح الوفد لها، بأن طلب منه أن يمنح الوزيرين الباقيين بدون باشاوية، ذلك اللقب، وهما عبدالحميد عبدالحق بك، وطه حسين بك، فقال له فاروق: ليس هذا وقته، فتجاهل النحاس ما سمع، ونادى على الوزيرين قائلاً: يا عبدالحميد باشا ويا طه باشا، أرجو أن تتقدما من جلالة الملك لشكره على منحكما الباشاوية، وأسقط في يد فاروق وابتلعها صامتاً.
هكذا كانت مصر في حوار حيوي دائم وآراء صحية متباينة، وتجمعني حالياً مناسبات كثيرة، بأستاذ جراحة القلب العالمي مجدي يعقوب، وأسعد كثيراً بأنه يحمل لقب (سير) من ملكة بريطانيا ونناديه جميعاً بذلك اللقب، اعتزازاً به وتقديراً لمكانته، والمعروف أن الملكة تمنح كل عام لبعض من يقدمون خدمات جليلة للمملكة المتحدة أو للإنسانية عموماً، ألقاباً راقية، ومازلت أتذكر أن سفير بريطانيا الأسبق في القاهرة، ديريك بلامبي، كان يحمل لقب (سير) من الملكة، أما أعضاء مجلس اللوردات في بريطانيا، فهم يحملون لقب اللورد احتراماً وتوقيراً، ولقد طلبت في فترة من حياتي تسمية رئيس مصر بلقب (عزيز مصر) قياساً على (شاه إيران) إذ إن التميز المنفرد يعطي الدول مكانة وتألقاً، ولكن بعض الخبثاء قال إن لقب عزيز مصر سوف يجر على زوجته الويلات، لأنها ستكون امرأة العزيز.
إن تاريخ مصر حافل، وعلينا أن نحيي بعض ومضاته المضيئة، فأنا أدرك جيداً أن كل الأحقاب لها نمط خاص من الألقاب، ومازلنا حتى الآن ننادي المهندس بعبارة باشمهندس، فلم نستطع بعد الفكاك من تاريخنا الاجتماعي ومأثوراته الباقية، ومازلت أتذكر خطابات التكليف الملكية لرؤساء الحكومات المتعاقبة، وما فيها من لياقة وحسن اختيار، حتى أن الملك المعظم كان ينادى بضمير الجمع (نحن فاروق الأول).
إنني لا أتباكى على عصر مضى كانت له سوءاته وأيضاً حسناته، ولكنني أطالب بأن تكون لنا هوية متميزة بين الأمم برداء معروف وغطاء رأس متميز، إلى جانب بعض التوابل البسيطة من الألقاب العصرية التي تذكي روح التنافس، وترفع درجة الأداء، ولن تكون تعبيراً طبقياً، لأنها لن ترتبط بعنصر الثروة، كما كان الأمر، في الأغلب، قبل عام 1952، بل ترتبط بالتفوق العلمي والخدمة الوطنية ورعاية الطبقات الفقيرة.
لقد تغيرت الدنيا وتحولت مظاهر التميز على نحو يختلف عن الماضي، ولا يبدو امتداداً له، وتحضرني هنا طرفة لا أنساها عندما استقبل الرئيس الأسبق مبارك، ذات يوم، فؤاد سراج الدين، وكان بينهما احترام متبادل، وكان يرافق زعيم الوفد دائماً حفيده أ. فؤاد بدراوي، وأظن أن الرئيس ظل يخاطب، بشكل غير متعمد، ضيفه قائلاً: يا فؤاد بك، وعند توديعه له ابتسم فؤاد سراج الدين بطريقته الساخرة والماكرة، وقال له: أظن أنها كانت فؤاد باشا يا فخامة الرئيس، وضحك الجميع!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"