روسيا والمسألة الليبية

05:40 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

أسهم المشهد الليبي الشديد التعقيد في التأثير بشكل لافت في الموقف الروسي الرسمي، وحاولت موسكو بعد سقوط نظام القذافي أن تتعامل بحذر شديد مع تطورات الأحداث، وأن تركز جل طاقتها واهتمامها على الأوضاع في سوريا التي مثلت بالنسبة إليها مسألة تحدٍّ كبير في صراعها مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة. وجرى تفسير هذا الاهتمام وتلك الاستماتة في الدفاع عن الحليف السوري من منطلق إدراكها أنها ارتكبت خطأ استراتيجياً عندما سمحت في أروقة الأمم المتحدة بتمرير قرار سمح بإقامة منطقة لحظر الطيران الليبي سنة 2011، وهو القرار الذي أدى بعد ذلك إلى تدخل مباشر من فرنسا وبريطانيا وحلف الناتو من أجل إسقاط نظام الحكم في طرابلس.
وعاد الاهتمام الروسي بالمسألة الليبية بشكل تدريجي، بعد أن شعرت بأن الأطراف المتصارعة في شرق ليبيا وغربها ترحّب بمشاركة موسكو في إيجاد حل للنزاع في هذا البلد الذي تريد بعض الأطراف الغربية أن تستثمر من خلاله دماء أبناء الشعب الليبي من أجل تحقيق مكاسب جيواستراتيجية في هذه المنطقة البالغة الأهمية في الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط. وعليه فقد رأت الأطراف الليبية، في تفعيل الدور الروسي عنصر توازن أساسياً في مواجهة الأجندات الإقليمية والغربية المتعارضة، والتي يعمل البعض منها على إطالة عمر الصراع، وتأجيل الحل السياسي، وفق ما أفصحت عنه السلطات الإيطالية عندما اتهمت بشكل صريح باريس بأنها تملك أجندة خفية ولا تعمل على تحقيق السلام في ليبيا.
وتحرص موسكو منذ انهيار مؤسسات الدولة في ليبيا على تبني سياسة متوازنة تجاه ما يحدث في هذا البلد، ولا تريد أن تتسرع في القيام بخطوات قد تضر بمصالحها في المنطقة، فقد سعت منذ البداية إلى لعب دور الوسيط «النزيه» بين مختلف الأطراف المتناحرة، لكنها لا تخفي مبدئياً تعاطفها مع الجيش الوطني الليبي لسببين رئيسين يتعلق أولهما بضبابية التحالف الذي يقوده فائز السراج، والذي يضم ميليشيات محسوبة على جماعات متشددة في غرب ليبيا، ولها امتدادات في الجنوب، ويتصل ثانيهما بالقوة والانسجام السياسي الذي يميّز المعسكر الذي يقوده الجيش الوطني، والذي استطاع أن يحقق انتصارات عسكرية حاسمة خلال الشهور الماضية، وذلك فضلاً عن الصلات القوية التي تربط المشير حفتر بموسكو لأسباب عديدة، لعل من أهمها معرفته باللغة الروسية.
ولذلك فإن الجانب الروسي يظل محافظاً حتى الآن على قدرته على تعديل مواقفه بشأن المسألة الليبية، وفق ما يحدث من تطورات على أرض الميدان، لأنه لا يريد أن يكون، في هذه المرحلة، محل انتقاد جديد من طرف الهيئات الإنسانية الدولية فيما يخص الخسائر البشرية التي يمكن أن تُسفر عنها معركة السيطرة على طرابلس، وبخاصة أن القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني ما زالت تحصل على دعم عسكري مباشر من طرف العديد من الأطراف الأجنبية، وفي طليعتها تركيا. وإذا كانت روسيا تنحاز الآن بشكل واضح للموقف المصري الذي يساند قوات حفتر لأسباب تتعلق بالأمن القومي المصري، فإنها تتفهم في المقابل الموقفين التونسي والجزائري اللذين يرفضان دعم خيار الحل العسكري لمصلحة قوات الجيش الوطني الليبي، وإن كان الكثير من المراقبين يرون أنه إذا انتصر خيار الحسم العسكري من دون وقوع خسائر بشرية كبيرة، فإنه سيحصل على دعم مجمل الأطراف العربية باستثناء تلك التي تدافع بشكل مباشر عن جماعات الإسلام السياسي.
أما بالنسبة لمشروع الإعلان الذي تقدمت به بريطانيا داخل أروقة مجلس الأمن، والذي دعا إلى تحميل مسؤولية ما يحدث لأولئك الذين «يقوِّضون السلم والأمن في ليبيا»، فإن الاعتراض عليه من قبل روسيا جاء من منطلق أن نص الإعلان لا يطالب كل أطراف الصراع بوقف المعارك، ويدعو فقط قوات المشير حفتر إلى وقف تقدمها في محيط طرابلس؛ وحدث ذلك بموازاة تأكيد وزير الخارجية الروسي أن بلاده تدعم جهود الأمين العام للأمم المتحدة لوقف العمليات العسكرية في ليبيا، ولا سيما الهجوم الأخير على العاصمة.
ونستطيع أن نخلص في الأخير إلى أن حدة النقد الذي توجهه الأوساط الغربية، وبخاصة البريطانية والأمريكية للتطور المتواصل للحضور الروسي على مستوى المشهد الليبي، يمكن فهمه من منطلق أن موسكو وبعد حسمها شبه الكامل لنتيجة المعركة في سوريا، فإنها توطّد بخطى ثابتة نفوذها في القارة السمراء، وتستعيد تدريجياً تأثيرها الجيوسياسي في شمال إفريقيا الذي يرتكز على علاقات تاريخية واستراتيجية مع الجزائر وعلى ديناميكية جديدة في علاقاتها مع مصر منذ سقوط حكم الإخوان في مصر سنة 2013.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"