رياضيات سداد الديون

01:57 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبد العظيم محمود حنفي*

عادة ما يكون هبوط الجبل أسهل من صعوده. لكن يبدو أن النظام المالي يعمل على نحو مغاير لقانون الجاذبية. فقد ثبت أن تخفيض مستوى المديونية؛ أي «الحد من التمويل بالديون»، يتطلب جهداً أكبر بكثير من صعود جبل الديون.
فبعد ما يقرب من عقد من بداية الأزمة المالية العالمية، ووفق دراسات حديثة صدرت عن البنك وصندوق النقد الدوليين، لا يزال الدين القومي في الاقتصادات المتقدمة في أعلى مستوى له منذ الحرب العالمية الثانية؛ إذ يبلغ 104% من إجمالي الناتج المحلي في المتوسط.
ففي اليابان، تبلغ النسبة 250%، وفي اليونان ما يقرب من 200%، وفي إيطاليا والبرتغال، يتجاوز الدين 120% من إجمالي الناتج المحلي. وبدون تدابير لخفض الإنفاق أو زيادة الإيرادات، لن يزداد الأمر إلا سوءاً. وتنشأ معظم الأزمات المالية من الاقتراض الزائد، وتختلف الأطراف التي تُقدم على الاقتراض المفرط من أزمة إلى أخرى.
ففي الماضي، كانت الحكومات أو الشركات هي التي تقترض في الغالب بصورة مفرطة. وسجلت الشركات المالية في بعض الاقتصادات المتقدمة، قبل وقوع الأزمة المالية الأخيرة، زيادة حادة في مستويات ارتفاع الديون، وكذلك فعلت بعض الحكومات.
ويظل السؤال عن أفضل طريقة لخفض الديون إلى مستويات قابلة للاستمرار. يؤكد لنا التاريخ أن تخفيض التمويل بالديون عملية بطيئة. وهناك حالات كثيرة عبر التاريخ، أفضت فيها الزيادة الكبيرة في التمويل بالديون، ليس في الحكومة فحسب؛ بل في القطاع الخاص، إلى وقوع أزمة مالية، مثلما حدث في البلدان الإسكندنافية وبلدان شرق آسيا في تسعينات القرن الماضي.
وأوضحت الأبحاث أن الأزمات المالية من هذا النوع تتبعها فترات طويلة من الركود العميق، تصل فيها المؤشرات الحاسمة مثل البطالة وأسعار المساكن، إلى نقطة القاع في وقت أطول بكثير مما تستغرقه فترة الركود العادي.
كما طرحت بعض الدراسات بعض الاستنتاجات الأخرى أهمها، أن الدول في سعيها لخفض الديون، إما تخفض النفقات أو تزيد معدلات الضرائب، وخلص بعضها إلى نتيجة تختلف عن الرسالة الكينزية الأساسية، التي تفيد بأن خفض الإنفاق يؤدي إلى حالة من الكساد، مقارنة بالزيادات الضريبية.
وعلى العكس، أكدت تلك الدراسات، أن الخطط القائمة على النفقات أقل ضرراً بالنمو من الخطط القائمة على الضرائب. فتقول إنه على وجه التحديد، فإن الخطط القائمة على النفقات، ترتبط في المتوسط بانخفاضات صغيرة جداً في النمو، وإن الخطة التي تبلغ قيمتها 1% من إجمالي الناتج المحلي، تؤدي إلى خسارة تبلغ حوالي نصف نقطة مئوية، مقارنة بمتوسط نمو إجمالي الناتج المحلي للبلد.
وتستمر خسارة الناتج في العادة أقل من سنتين. وإضافة إلى ذلك، إذا أطلقت خطة قائمة على النفقات خلال فترة نمو اقتصادي، فإن التكاليف من حيث الناتج قدرها صفر في المتوسط، وهذا يعني وفق تلك الدراسات، أن بعض خطط المالية العامة القائمة على النفقات، ارتبطت بانخفاضات صغيرة، بينما ارتبطت خطط أخرى بارتفاعات شبه فورية في النمو، وهي ظاهرة يطلق عليها في بعض الأحيان «التقشف التوسعي»، في حين كانت التصحيحات المالية القائمة على الضرائب، مرتبطة بحالات كساد أكبر وأطول.
وكانت الخطط القائمة على الضرائب التي تبلغ 1% من إجمالي الناتج المحلي، متبوعة في المتوسط بانخفاض قدره 2% من إجمالي الناتج المحلي، مقارنة بمساره قبل التقشف. ويميل هذا التأثير الانكماشي الكبير، إلى الاستمرار لسنوات كثيرة.
وبالنسبة لحالات التقشف بعد الأزمة المالية عام 2008، فقد وجدت تلك الأبحاث نفس النتيجة. فعلى الرغم من أن الحجم الكلي لبعض خطط التقشف، كان كبيراً جداً ليس في اليونان فحسب؛ بل في إيرلندا والبرتغال وإسبانيا، وبقدر أقل في إيطاليا والمملكة المتحدة، فقد شهدت البلدان التي اختارت التقشف القائم على الضرائب كساداً أكثر عمقاً، من تلك التي اختارت خفض الإنفاق.
وتقدم تلك الأبحاث ثلاثة تفسيرات محتملة لاستخلاصاتها؛ الأول أن الفرق بين الخطط القائمة على الضرائب والخطط القائمة على الإنفاق، يرجع إلى الفرق في السياسات المصاحبة، وأكثر الأمور وضوحاً هي السياسة النقدية، وإن كانت هناك دراسات تؤكد أن جزءاً صغيراً فقط من الفرق يتعلق بالسياسة النقدية.
والاحتمال الثاني يتعلق بتحركات سعر الصرف، فيمكن أن يكون التصحيح المالي أقل ضرراً إذا كان مسبوقاً بتخفيض قي قيمة العملة. أما التفسير الاحتمالي الأقرب للواقع، فهو يشير إلى دور الثقة والتوقعات، فالمسارعة إلى تحقيق استقرار المالية العامة، وعندها يختفي عدم اليقين.
خلاصة القول إن خفض نسبة الدين إلى إجمالي الناتج المحلي، يعتمد كثيراً على طريقة تصحيح عجز المالية العامة، وتوخي صناع السياسات العناية في التنسيق بين السياسات المالية والاقتصادية الكلية والهيكلية، لضمان وصول النظام المالي إلى وضع موات يسمح له بدعم الاقتصاد، مع تنسيق صناع السياسات أنشطتهم لمنع انتشار تداعيات معاكسة.

*باحث مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"