سر المبدعين . . شعور حزين

04:29 صباحا
قراءة 3 دقائق

من رحم العاطفة يولد الإبداع، وكل من يتميز بالإبداع يبحث عما يشبع نهمه من العاطفة والوجدان . . فلولا ذلك الشعور الجميل والممتع لما داعب الرسام بريشته لوحة تنطق بمشاعره، ولولا العواطف الجياشة في صدر عازف الموسيقى لما تردد صدى صوت الحب في أرجاء قاعات الاحتفال . . ولولا الشجن والمعاناة لجفَّت أقلام الحبر بين أيدي الكتاب .
هكذا الإبداع، لا يتفجر إلا من خلال العاطفة، خصوصاً تلك العاطفة الممزوجة بالأسى والألم، فإذا لم يخفق القلب ويتفتت بفعل الحب والألم والشجن لا يصرخ الإبداع معلناً عن ولادته ومن ثم عن سيطرته التامة على صاحبه . فكم من شخص قطَّعه سيف الخيانة وتركه أشلاء، وكم من امرئ فجع بفقد أعز الناس عليه، وكم من قصة حب لم تكتمل لسبب أو لآخر!
من ركام تلك العواطف الجياشة والمشاعر الحزينة برزت مواهب البشر، فكانوا قمة في الإبداع وتركوا لنا تحفاً نادرة تزدان بها أكبر متاحف العالم اليوم . فالشاعرة الأمريكية سيلفيا باث صاغت أروع قصائدها بقلب مكسور بعدما عرفت أن زوجها ورفيق دربها على علاقة بامرأة أخرى . فالخيانة هنا هي التي جعلت تلك الشاعرة تتحدث عن ألم مزق قلبها فنزف على الورق إبداعاً .
وكذلك الرسام النرويجي التعبيري إدوارد مونك الذي غاص في بحر الأسى واليأس فعكس صورته البائسة في لوحاته التي لم تعرف الشهرة إلا بعدما أدرك أنه أخطأ في خياناته المتعددة للمرأة الوحيدة التي أحبها فعلاً . . وإلى جانب لوحته الشهيرة "الصرخة"، كانت لوحة "الجحيم" الإبداعية التي يظهر فيها مونك وسط ألسنة من اللهب حيث تحرقه نيران أسىً رافقه منذ الطفولة .
وهكذا، من ألوان العذاب تتفجر لدى المبدعين ينابيع التميز، وهناك لون من ألوان العذاب يعانيه الكثير من الناس لكنه لا يتحول إلى إبداع إلا لدى أشخاص نادرين، ألا وهو الحب من طرف واحد، ذلك الذي عرفه وعاناه الروائي الفرنسي ستاندال ففجر في كتابه "عن الحب" كل أحاسيس الألم التي ولَّدها حب امرأة لم تبادله ذلك الشعور، بل قست عليه ولم ترحم هيامه .
"عن الحب" كتاب، حاول فيه ستاندال العثور على منطق في ما هو بعيد عن المنطق في الحب، فراح يفصِّل مشاعر عشق لم يلقَ إلا الصد والقسوة . واستنتج أن الأمل الذي يعطيك إياه شخص ما يكون أحياناً كافياً ليولد لديك شعوراً بالحب تجاهه .
إن العالم مليء بالنُصب والمعالم التي لم تكن لتظهر لولا الحاجة إلى التعبير عن مشاعر حب أو ألم، أو حتى عذاب ومحاولة للتكفير عن ذنب ما . . وتاج محل في الهند واحد من تلك المشاعر المجسدة إبداعاً وروعة، مشاعر أضحت مع الزمن أعجوبة من عجائب الدنيا وتحول معها الحب العاصف إلى إحساس خالد لم يزُل بموت الحبيب . فقد شيد الإمبراطور المغولي شاه جيهان ذلك الضريح الرائع الذي استغرق بناؤه ستة عشر عاماً ليعبر عن وفائه لزوجته ويترك لها ذكرى مخلدة على الأرض .
تاج محل شيده الحب العاصف في قلب الإمبراطور . . هكذا يقال، لكن الواقع يقول ومن خلال كلام شاه جيهان إن الحزن على فقدان الحبيبة هو الذي أبدع فقدم تلك التحفة الرائعة . فقد ظل الحزن مخيماً على قلب الإمبراطور طوال مدة بناء الصرح الذي كما قال عنه "منظره يطلق زفرات حب
حزين يمزق النفس ويجعل الشمس والقمر يذرفان الدمع السخي" .
لم أستعرض تلك الحالات من المشاعر الجياشة التي تمخض عنها إبداع المبدعين إلا لأقول إننا نعيش في زمن نبحث فيه عن السعادة ولكننا نخشى من الإفصاح عن مشاعرنا . لقد سمعنا كثيراً بضرورة التفكير بشكل إيجابي واستبعاد السلبيات من حياتنا كي نشعر بالسعادة المرجوَّة، وكم من الكتب تصطف على رفوف المكتبات وتحمل عناوين لافتة تدعو إلى التخلص من المشاعر السلبية والتفكير بإيجابية .
لو افترضنا أننا تمكنا من جمع السعادة في صندوق، وتخلصنا من مشاعر تنغص علينا حياتنا، هكذا فقط لنطوي صفحة من العذاب، ماذا سيحل حينها بالإبداع؟ هل سنتركه هائماً لا يجد رئة يتنفس بها؟ فلنتخيل ماذا يحدث لو أننا نعيش في بحر من المشاعر الإيجابية حيث لا هم ولا حزن ولا قلق . من قال إن هذه المشاعر سلبية فعلاً؟
لا أريد أن أبدو في ثوب الكآبة أمام قرائي، لكنني أؤمن تماماً أن المشاعر الحزينة التي تغمرنا من وقت لآخر تجعلنا قادرين على رؤية أي بصيص من نور فنعرف حينئذ قيمة السعادة التي نعيشها .
لا أتمنى لكم إلا السعادة، ولكنني أعرف أن الحزن عندما يلوح في أفق الحياة يحمل معه في كثير من الأحيان كماً من الإبداع فنقدم للعالم إنجازاً فعلياً ممزوجاً بالعطاء .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"