صفقة «المنطقة الآمنة»

04:46 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق


منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب تحولت سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات وإبرام الصفقات السياسية بين القوى الدولية والإقليمية. كل المشاركين في الصراع، بأنفسهم أو عبر وكلائهم، يسعون لتحقيق مصالحهم على حساب الشعب السوري وهو الطرف الوحيد الذي يدفع الثمن. في كل محطات الصراع وجولات التفاوض أو المساومة ظلت هذه الحقيقة المؤلمة بادية للعيان.
الصفقة الأخيرة بين الولايات المتحدة وتركيا حول ما يسمى بالمنطقة الآمنة في شمال شرق سوريا أحدث النماذج الصارخة على تجاهل الشعب السوري، وتقرير مصير جزء من أرضه في غيابه. تجسد الصفقة التي ولدت مبتسرة حجم العبث بمستقبل سوريا. كما تجسد التناقضات بين مصالح اللاعبين الأجانب، وكيف يحاول كل منهم استثمار وجوده في سوريا لانتزاع مكسب من الآخر.
الاتفاق الذي أعلن في السابع من أغسطس الجاري جاء تتويجاً لعام كامل من الشد والجذب والضغوط المتبادلة بين واشنطن وأنقرة حول إنشاء المنطقة وهو ملف واحد من ملفات خلافية عدة بين الحليفين. والحقيقة التي لم ينكرها الطرفان أن ما أعلن لم يزد عن مشهد مسرحي لتهدئة التوتر بعد أن بلغ ذروته. البيان الصادر نفسه يعترف ضمناً بالفشل فقد نص على «تكثيف الجهود لإقامة مركز عمليات مشترك للإشراف على ترتيبات إدارة وإنشاء المنطقة الآمنة». أي أنه لا يوجد هذا المركز حتى الآن ولم يحدث اتفاق على إقامة المنطقة نفسها والتي يختلفان حول عمقها، والمسؤول عن حفظ الأمن، والإدارة المدنية، وحظر الطيران، ومصير القوات الكردية.
جاء الإعلان عن المركز كمحاولة أمريكية لتهدئة غضب تركيا ومنعها من شن عملية عسكرية لإقامة المنطقة الآمنة بصورة أحادية. ولواشنطن مصلحة مهمة في منع ذلك الغزو، ليس فقط لكبح الطموحات التركية، ولكن أيضاً لأنه لا يمكن أن تترك الجيش التركي يفترس وحدات حماية الشعب الكردية التي تتحالف معها واشنطن وتسلحها منذ 2014. كما أن تدمير هذه القوات يخلق فراغاً سيستفيد منه تنظيم داعش. تخشى واشنطن أيضاً أن يؤدي الضغط التركي على الأكراد إلى ارتمائهم في أحضان روسيا وبالتالي خسارة حليف استراتيجي. غير أن هذه الرغبة الأمريكية تصطدم مع هدف آخر هو الحفاظ على حليف أكبر أي تركيا ذاتها رغم الخلاف معها بشأن سوريا وغيرها.
تدرك واشنطن جيداً مدى حساسية المسألة الكردية بالنسبة للأتراك. وليس من الحكمة الضغط عليهم بهذه الورقة وإلا كان معنى ذلك التضحية بالعلاقات الاستراتيجية مع حليف مهم وعضو في الناتو. وقد أصاب المحلل الروسي سيرجي مانوكوف كبد الحقيقة عندما قال إن واشنطن حرصت على نجاح المفاوضات مع أنقرة لأن البلدين كانا على بعد خطوة واحدة من انهيار علاقات التحالف بينهما.
وتحقق هذه المنطقة هدفين أساسيين لتركيا، أولهما إبعاد القوات الكردية عن الحدود وإضعافها مما يضعف موقف امتدادها في الداخل أي حزب العمال الكردستاني وبالتالي يسهل التفاهم معه. الهدف الآخر هو إعادة كتلة بشرية كبيرة من اللاجئين السوريين إلى أراضيها بعد أن باتوا عبئاً اقتصادياً وسياسياً ثقيلاً عليها.
المأزق الذي تواجهه واشنطن هنا يبدو شديد التعقيد، فهي لا تريد التخلي عن الأكراد لكنها لن تستطيع البقاء طويلاً لحمايتهم، وليس باستطاعتها ضمان بقاء قوات فرنسية وعربية لفترة طويلة أيضاً، هذا إذا أقنعت هذه الدول بنشر قوات في المنطقة الآمنة. وكما أنها تريد الرحيل ولا تقدر عليه فهي تصر على معاقبة تركيا بعد إبرامها صفقة الصواريخ مع روسيا، وتعتبر أن حرمانها من طائرات «إف 35 «ليس كافياً. غير أنها لا تتحمل خسارة هذا الحليف المهم. وتعلم أن التمادي في الضغط عليه سيزيده قرباً من روسيا. وفي نفس الوقت لا يمكنها التسليم بكل طلباته.
باختصار تريد واشنطن تحقيق كل شيء إلا التوصل إلى تسوية تنهي المأساة وتوقف عذابات الشعب السوري. إنها السياسة عندما تتجرد من كل المبادئ والقيم الإنسانية. تقترفها واشنطن ويشاركها في الجريمة حلفاؤها وأعداؤها على السواء.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"