ضد الاستيطان وضد معاقبة حكومة الاستيطان

06:17 صباحا
قراءة 4 دقائق

زار وزير الحارجية البريطاني وليام هيغ الأراضي المحتلة يوم الخميس الماضي، وقد تزامنت زيارته هذه مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، فكان من الطبيعي أن تخطف زيارة المسؤول الأمريكي الأضواء، وتشاء المصادفات أن تأتي زيارة رئيس الدبلوماسية البريطانية بعد نحو أسبوع من زيارة أداها وزير الدفاع الأمريكي هيغل للمنطقة، وهذا يكاد يُقاسم الوزير البريطاني اسمه! .

في واقع الحال فإن الزيارتين للوزيرين الأمريكيين تعكسان طبيعة العلاقات الراسخة مع تل أبيب . هيغ أبرم عقود تسليح جديدة ومنح ضوءاً يتراوح بين البرتقالي والأخضر لمهاجمة إيران، أما كيري فحمل وعوداً سلمية غير مقدسة وأثار الفضول بتناوله الشاورما والكنافة في رام الله، بأكثر مما أثارت وعوده التقليدية أي اهتمام .

الوزير البريطاني وبعد لقائه شيمون بيريز رئيس الدولة الصهيونية لم يجد بيريز ما يصرح به سوى الإشادة بزيارة الوزير الأمريكي كيري وما أسماه مبادرته، وكأنه لم يستقبل الوزير البريطاني!

على أن زيارة الوزير هيغ التي شملت لبنان والأردن، لم تمر من دون أصداء، فالرجل أطلق تصريحاً قوياً دان فيه الاستيطان، وقال إنه بسبب الاستيطان فقدت إسرئيل بعض التأييد في بلاده وفي الاتحاد الأوروبي . وموقف الوزير البريطاني ليس جديداً، فقد سبق أن ارتفعت أصوات أوروبية مماثلة بهذا الخصوص على مدى نحو ثلاثة عقود مضت، كما أن منظومة الاتحاد القاري ما فتئت تشهر هذا الموقف الذي يدين الاستيطان بأوضح العبارات . ففي أواخر فبراير/شباط من العام الجاري أصدرت بعثة من دول الاتحاد الأوروبي إلى القدس بياناً وصف بأنه شديد اللهجة تحت عنوان تقرير القدس 2012، وصفت البعثة الاستيطان في القدس المحتلة بأنه منهجي ومتعمد واستفزازي ويشكل جزءاً من سياسة استراتيجية تهدف إلى جعل من المستحيل أن تصبح القدس عاصمة لدولتين، والأهم من هذا الموقف الصائب أن البعثة دعت الدول الأعضاء ال27 في الاتحاد إلى منع أي تعاملات مالية كالاستثمارات التي قد تؤدي إلى دعم الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة .

ونستذكر قبل ذلك أن الرباعية الدولية التي كانت تضم الاتحاد الأوروبي إلى جانب روسيا وأمريكا والأمم المتحدة دأبت على اتخاذ مواقف متحفظة من الاستيطان غالباً بدفع من الأوروبيين والروس .

المشكلة ليست في أن تصريح الوزير هيغ لا جديد فيه، إذ إنه لأمر جيد التمسك بهذا الموقف الصائب والجهر به في جميع المناسبات . المشكلة أن هذا الموقف لا يقترن بأي موقف عملي سوى بعض اللفتات الرمزية مثل منع استيراد منتجات المستوطنات، وتصدير هذه المنتجات إلى الأسواق الأوروبية يمكن الالتفاف عليه بأكثر من طريقة . وبينما تقوم جامعات أوروبية على سبيل المثال برفض التعامل مع أي مؤسسات تعليمية ذات صلة بالاستيطان، علاوة على مبادرات أهلية عديدة في هذا الشأن، فإنه يغيب لدى الحكومات الأوروبية بما فيها الحكومة البريطانية أي موقف سياسي من شأنه الضغط على حكومة الاحتلال للتفكير بوقف الاستيطان .

ترفض الإدارات الأمريكية على الدوام إحالة قضية الاستيطان إلى مجلس الأمن تحت حجج سخيفة من قبيل ترك الأمر للتفاوض وضرورة تشجيع تل أبيب على الانخراط في العملية السلمية لا تنفيرها منها، فتجاريها فرنسا وبريطانيا في ذلك على مضض، والنتيجة أن المحفل الدولي الأعلى لا ينظر في هذه القضية، ويتم إحباط مثل هذه الخطط من طرف واشنطن بغير اعتراض أوروبي . وعلى مستوى العلاقات الثنائية فإن الاستيطان لا يشكل عملياً عقبة تُذكر أمام العلاقات البريطانية المتشعبة بالكيان الصهيوني، وكذلك هو الحال لدى أغلبية الدول الأوروبية، وهو ما يجعل الاحتلال يمضي في مخططاته الاستيطانية وخاصة في القدس الكبرى واثقاً أن ردود الفعل الدولية لا تتعدى الإطار الدبلوماسي، سواء من الاتحاد الأوروبي، أو غيره من الدول والمنظمات الوازنة . ومن المرجح أن يستمر الوضع السياسي على ما هو عليه في مُقبل الأيام والأعوام، مع فارق خسارة المزيد من الأرض ومصادر المياه التي يصادرها الاحتلال .

لم يرشح شيء عن لقاء الوزير هيغ بالرئيس محمود عباس في رام الله، لكن من الواضح في ضوء تصريح هيغ أن الرجلين تبادلا الحديث بين أمور أخرى عن التغول الاستيطاني الذي يهدد حل الدولتين، ولا يوفر فرصة في الرؤية الفلسطينية لاستئناف التفاوض . غير أن المرء يستذكر هنا أن عباس سبق أن لوّح بإحالة القضية إلى المحكمة الجنائية، وقد ازدهر الحديث حول هذه المسألة بعد أن أصبحت فلسطين دولة في وضع مراقب في الأمم المتحدة، حيث يوفر الوضع الجديد لفلسطين فرصة التقدم بهذا الطلب . على أن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل إن الحديث توقف في هذا الخصوص، وعلى الأرجح نتيجة ضغوط صهيونية شرسة، أو ثمرة لوعود مبهمة لا طائل منها تطوعت بها بعض الأطراف، وفي المحصلة تمت الاستجابة لها واعتصم عباس بالانتظار المديد، والانتظار بالمناسبة هو السياسة الوحيدة التي يعتنقها الرجل ويتقنها .

في النهاية فإن الاستيطان هو مظهر من مظاهر الاحتلال العسكري، وامتداد بشري ومدني له، وفي غيبة أي موقف سياسي حازم من الاحتلال برمته، فإن الإخفاق سوف يرافق معالجة الامتدادات والأذرع، وهو ما نشهد فصوله المقيتة فصلاً تلو آخر .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"