ظاهرة “الجهاديين” الغربيين العصية على الفهم

03:27 صباحا
قراءة 5 دقائق
د . غسان العزي
منذ العام 2012 وصل الى سوريا حوالي خمسة عشر ألف مقاتل من واحد وثمانين بلداً . بالمقارنة شارك حوالي عشرة آلاف أجنبي في القتال ضد الاحتلال السوفييتي لأفغانستان في ثمانينات القرن الماضي . ويشكل رعايا البلدان الإسلامية الأغلبية الساحقة من "الجهاديين"، وتأتي تونس في رأس القائمة، بحسب تقرير صادر عن مجموعة من الخبراء الأمريكيين "سوفان غروب" في يونيو/ حزيران الماضي .
غريب أن تكون تونس المصدّر الأول للإرهابيين، في وقت يتمتع مجتمعها المدني بالكثير من الانفتاح، وأضحت نموذجاً يحتذى للانتقال الديمقراطي الهادئ بالمقارنة مع دول عربية أخرى تتخبط في حبائل مثل هذا الانتقال . هناك من يشرح ذلك بأن تونس ليست بيئة حاضنة للمتطرفين الذين يتركونها بحثاً عن بيئات أكثر ملاءمة، كما سوريا والعراق في الوقت الحاضر .
فرنسيان، من أصل فرنسي، شاركا في عمليات الذبح التي قام بها "داعش"، ويبدو واضحاً أحدهما في الفيديو الذي نُشر في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي يشارك في ذبح الرهينة الأمريكي، ثم يظهر الثاني في فيديو آخر يصور ذبح 18 طياراً سورياً على يد إرهابيين داعشيين مكشوفي الوجوه .
ويقول الصحفي الفرنسي، في راديو فرنسا الدولي، دافيد تومسون، الذي نشر كتاباً بعنوان "الجهاديون الفرنسيون" إنه لو لم يكن هناك فرنسيون في الفيديو المذكور لما تحرك الرأي العام الفرنسي . وتنظيم "داعش" يعرف ذلك ويدرك تماماً أن وجود الفرنسيين في الفيديوهات يضاعف من تأثيرها الإعلامي لدى الرأي العام الفرنسي والغربي عموماً . في هذا الكتاب يقول تومسون إن 5 .21 في المئة من الأوروبيين (وعددهم ثلاثة آلاف) الذين يقاتلون في العراق وسوريا هم فرنسيون، ويبلغ عدد الجهاديين الفرنسيين في كل ساحات "الجهاد"، 1132 منهم 673 في سوريا والعراق (ما نسبته 53 في المئة) .
صحيح أن هذه الظاهرة تتفشى في صفوف أبناء وأحفاد المهاجرين الذين يعانون البطالة والتهميش الاجتماعي . لكن ما يخيف المحللين وعلماء النفس وقوات الأمن أن هناك حالات كثيرة عصية على الفهم ولا تنطبق على الأطر العلمية المعروفة في علوم النفس والسياسة والاجتماع . هناك شبان يعيشون في كنف عائلات مستقرة وينعمون برغد العيش، يذهبون للقتل والذبح في صفوف "داعش" . هناك فتيات جميلات في مقتبل العمر يدرسن في جامعات مرموقة يذهبن لارتداء البرقع والجهاد مع "داعش" . هذه الحالات نادرة جداً ولكن المخيف هو قدرة "داعش" على الجذب والإغراء وغسل الأدمغة الذي يبدأ عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي .
ويتبارى العلماء في تحليل هذه الظاهرة، فمنهم من يعتقد أنه، بالنسبة لبعض الشبان، الدافع للجهاد هو كره النظام السائد في مجتمع غربي لا يوفر لهم أي أفق لمستقبل مشرف . ولجاذبية العنف في صفوف الشباب سوابق كثيرة في التاريخ، من العدميين الى بول بوت مروراً بالنازيين . بالأمس كان هذا العنف يقبع في إطار إيديولوجي محدد، واليوم بات أعمى ويلجأ الى كل أشكال التطرف والتعصب . ففي اليمين المتطرف هناك الخضوع الأعمى للقائد المبجل وثقافة الموت: تذكروا شعار الفاشيين الإسبان "يحيا الموت" . في اليسار المتطرف هناك معاداة الإمبريالية التي تحولت مع الوقت الى معاداة الغرب وتمجيد الحاكم المستبد المعادي لهذا الغرب .
ثمة قناعة في أوروبا بأن الحلول الأمنية والبوليسية لا تكفي لمكافحة هذه الظاهرة .لذلك ينسق الأوروبيون في ما بينهم لوضع استراتيجيات تقوم على المقاربات الفكرية والتربوية مع التفكير بحلول اجتماعية-اقتصادية . ويدعو مثقفون كثيرون الى عدم الكلام عن تطرف إسلامي، فتنظيم "داعش" لا علاقة له بالإسلام، والجهاد في الإسلام ليس أبداً ما يدعو اليه ويمارسه، وينبغي فصل السياسي عن الديني والبربرية عن الدين . من هنا الاتفاق على استخدام كلمة "داعش" في الصحافة والإعلام وليس "الدولة الإسلامية" .
كيف يتم تجنيد أوروبيين لايتكلمون كلمة واحدة بالعربية، وكيف يمكن إقناعهم وإغراؤهم مهما كانوا يعانون مشاكل نفسية واجتماعية وغيرها؟
الباحثة في علم الانطروبولوجيا دنيا بوزار أجرت دراسة حول "أدلجة الجهاديين الفرنسيين" ونشرتها في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي في باريس . بالنسة اليها يجري تجنيد 91 في المئة من هؤلاء عبر الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي حيث تنتشر مقاطع فيديو فيها الكثير من الحرفية لجهة التأثير النفسي والقدرة على الإغواء . لا مشاهد عنف فيها بالضرورة بل مقاطع من أفلام مثل "ماتريكس" و"سيد الخواتم" وموسيقى جذابة وكلام مؤثر عن المظلومين إخوتنا في الإنسانية وواجب نصرتهم والدفاع عنهم . ومع التكرار يقتنع المستهدَف بأنه "مختار" للدفاع عن قضية عادلة . ويستبق الفيديو الانتقادات التي سوف يتعرض لها "المختار" من المقربين منه فيطلب منه تجاهلها وعدم التعامل معها .
بعد الشبكة الاجتماعية تأتي اللقاءات السرية المباشرة ثم السفر والتدريب والخدمات اللوجستية قبل المشاركة في القتال والقتل . ومعظم الذين يعودون (يهربون في الحقيقة)يعبرون عن خيبة أملهم مما شاهدوا وعاشوا .
لمكافحة ظاهرة السفر للجهاد أقرت بعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا، قوانين لمكافحة الإرهاب، وطلبت من الأهالي التعاون عبر إخطار السلطات بما يلاحظونه من تصرفات مريبة وغير اعتيادية لأولادهم . ومنذ إبريل/ نيسان الماضي وصلت 666 "إشارة" الى السلطات الفرنسية نجحت في منع ثمانين شاباً من السفر الى "الجهاد" . وهناك مئات الشبان الموضوعين تحت المراقبة ومنهم من كان موقوفاً بتهم الاتصال بشبكات إرهابية .
أستاذ العلوم السياسية المتخصص بالإسلام والشرق الأوسط "جان-بيار فيليو" يحاول في كتابه الأخير "أكتب لكم من حلب" شرح ظاهرة الجهاديين الغربيين بالقول: لا علاقة لها البتة بالإسلام . إنها ظاهرة سياسية وليست دينية . خطاب "داعش"، وهو فرقة يضرب المسلمين قبل غيرهم، لا يمكن أن يقنع إلا أولئك الذين يفتقرون الى الثقافة الإسلامية ويعيشون في عالم "ما تحت الثقافة" في "فيس بوك" وألعاب الفيديو . لذلك لا تتم مكافحة "الردكلة" بالقول لهؤلاء: إنه ليس الإسلام الحقيقي . فهم لا يأبهون وما يثيرهم هو الدخول في عالم غريب غير اعتيادي وخارج عن المألوف .
ولماذا يعمد "داعش" الى وضع الغربيين "الداخلين في الإسلام" في مقاطع فيديو قطع الرؤوس، ولماذا يكشفون عن هؤلاء الجلادين؟ بحسب فيليو، إنهم يسعون وراء الاستفزاز وزرع الشكوك إذ لافائدة عسكرية للأوروبيين بل فائدتهم الأساسية هي في "البروباغاندا" وزرع الشكوك حول المسلمين الذين يعيشون في أوروبا ومفاقمة ظاهرة الشك فيهم وتهميشهم، ما يسهل عمليات تجنيد المزيد منهم . ما يقوم به "داعش" هو التجنيد وليس الدعوة الى الإسلام، في رأي فيليو، لذلك يمارس على المجنَدين الضغوط لتجنيد رفاقهم وأصدقائهم . ولا يحق للمجنَّد الندم والعودة لأنه يعتبر مرتداً فيقام عليه الحد .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"