عامان وعشرة آلاف كذبة

03:31 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبدالخالق

في العادة يكذب السياسيون، سواء صدقهم الناس أو لم يصدقوهم. السياسي الصادق لا وجود له، فإما إن يكون المرء سياسياً أو يكون صادقاً. تماماً مثل السياسي النزيه الذي اعتبره الزعيم البريطاني الشهير وينستون تشرشل كائناً لم يخلق بعد، فالسياسة والنزاهة لا يجتمعان معاً في شخص واحد. والرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليس استثناء بالطبع، غير أنه يفوق أقرانه من السياسيين الغربيين في معدل إنتاج الأكاذيب أو التصريحات والبيانات الخاطئة أو المضللة.
ترامب ليس الوحيد الذي لا يقول الحقيقة، فكلهم يفعلون ذلك. ولكن من سوء حظه أنه يقف في مواجهة منظومة من أشرس وأقوى المؤسسات الإعلامية في العالم، وهي تكاد تحصي عليه أنفاسه، فما بالك بتصريحاته وأقواله؟ وخلال الأسبوع الماضي نشرت صحيفة «واشنطن بوست» إحصاء مذهلاً عن عدد التصريحات والبيانات غير الصحيحة أو المضللة الصادرة عن الرئيس منذ بداية ولايته. كشفت الصحيفة عن أن عدد تلك التصريحات بلغ عشرة آلاف و111 تصريحاً منذ توليه الرئاسة قبل نحو عامين، وعلى وجه الدقة خلال 828 يوماً منذ تنصيبه حتى ال 28 من إبريل الماضي.
ووفقاً لآلية تديرها الصحيفة، وتطلق عليها اسم «مدقق الحقائق»، وتستهدف التحقق من صدق ودقة بيانات وتصريحات المسؤولين، فإن اتجاه ترامب لإصدار تصريحات وبيانات غير صحيحة استمر بالتصاعد منذ دخوله البيت الأبيض حتى الآن. وتوضح الأرقام أنه خلال أول 600 يوم له في السلطة أصدر خمسة آلاف تصريح غير صحيح، بواقع خمسة تصريحات يومياً.
ثم كان تسونامي التصريحات الزائفة، وفقاً لتعبير الصحيفة خلال الفترة التالية حتى السادس والعشرين من الشهر الماضي، أي خلال 226 يوماً، وفيها تخطى ترامب حاجز العشرة آلاف تصريح غير صحيح، بمعدل 23 تصريحاً غير صحيح يومياً.
لا يتسع المجال لاستعراض كل ما جاء في التقرير، ولكن تستوقفنا بعض الأرقام المثيرة للدهشة، منها 45 معلومة غير صحيحة أدلى بها ترامب خلال محادثة هاتفية لشبكة «فوكس نيوز» في ال 25 من أبريل الماضي استغرقت 45 دقيقة، أي أنه اقترف كذبة كل دقيقة. المعدل الغريب نفسه حدث أيضاً في اليوم التالي مباشرة خلال تصريحات صحفية سريعة لم تستغرق أكثر من ثماني دقائق اشتملت على 8 ادعاءات غير صحيحة.
معلومة أخرى طريفة يذكرها التقرير، وهي أن ترامب وصل إلى ذروة إنتاجه للتصريحات غير الصحيحة خلال ثلاثة أيام فقط من الشهر الماضي، هي ال 25 وال 26 وال 27، حيث بلغ عددها 171 تصريحاً. الملاحظة الأخيرة أن ترامب لا يتردد في تكرار المعلومات الخاطئة حتى بعد افتضاح أمرها. وترصد الصحفية 300 مثال على ذلك.
مرة أخرى نؤكد أن ترامب ليس حالة استثنائية، اللهم فيما يتعلق بعدد البيانات غير الصحيحة، ولكن كل السياسيين في الغرب يكذبون، حتى إن الكثيرين يعتبرون الكذب جزءاً من أدوات العمل السياسي، تحقيقاً لأهداف داخلية أو خارجية. هذه الآفة ليست وليدة اليوم. والتاريخ القديم والمعاصر يمتلئ بقصص عن أكاذيب أطلقها القادة، ووظفوها لخدمة أهدافهم ومشاريعهم الخاصة أو القومية.
وللبروفيسور الأمريكي الشهير جون ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو كتاب مهم في هذا الصدد بعنوان «لماذا يكذب القادة؟ حقيقة الكذب في السياسة الدولية». وفي الكتاب نماذج لعشرات من الأكاذيب في الشرق والغرب قديماً وحديثاً تكشف بوضوح أن الكذب كان دائماً أداة مهمة ربما لا غنى عنها في العمل السياسي لتحقيق الأهداف.
ويعترف المؤلف بأن الأكاذيب السياسية قد تكون مفيدة بالفعل في الكثير من المواقف، إلا أنه يحذر من التمادي في إطلاقها. ذلك أن الإسراف في التضليل والخداع يخلق في النهاية ثقافة مسمومة تنشأ عنها حالة من الفساد والارتباك في المجتمع، فضلاً عن إحداث حالة من الاضطراب والضبابية في العلاقات الخارجية مع بقية الدول. وهذا ما نراه تماماً في ظل سلوك الإدارة الأمريكية الحالية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"