علاقات روسيا مع دول الجنوب

01:46 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

تواجه موسكو في المرحلة الراهنة تحديات كبرى على المستويين الداخلي والخارجي، حيث يجد الكرملين نفسه مضطراً إلى إعادة ترتيب أوراقه الداخلية من أجل مواجهة الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن تراجع أسعار النفط من جهة، والعقوبات الاقتصادية التي تفرضها واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي عليها منذ اندلاع شرارة الأزمة الأوكرانية، من جهة أخرى. وتزداد وتيرة التحولات الداخلية مع اقتراب الاستحقاق الرئاسي المزمع إجراؤه خلال سنة 2018، الذي سيعمل من دون أدنى شك على رسم ملامح مستقبل الدولة الروسية مع أفق سنة 2025، التي تمثل في أعين المراقبين سنة بداية مرحلة ما بعد بوتين الذي ستنتهي ولايته الرئاسية المقبلة خلال سنة 2024.
ويشير المتتبعون لمجريات السياسة الداخلية الروسية، إلى أن زعيم الكرملين يسعى إلى إجراء تغييرات عميقة في بنية السلطة في روسيا من خلال العمل على تشكيل نخبة حاكمة جديدة ليست لها صلة بالمرحلة السوفييتية، وتتميز من حيث ملامحها العامة بغلبة التوجهات القومية على أغلب أعضائها، الأمر الذي يؤكد، بحسب المراقبين، أن أصحاب التوجهات الليبرالية لن يكون لهم حظ كبير في تولي السلطة على المدى المنظور، بخاصة في المرحلة التاريخية التي يزداد فيها الصراع مع الغرب حدة وضراوة. وبالتالي، فإنه من المستبعد أن تعيش روسيا في المرحلة المقبلة تجربة شبيهة بتجربة حكم الرئيس بوريس يلتسين الذي حكم روسيا في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وظهور نخبة من الأوليغارشية المالية الموالية للغرب، التي لم يتمكن بوتين من محاصرتها والقضاء عليها إلا مع بداية سنة 2004 بعد فضيحة شركة النفط الروسية الخاصة (لوكوس) التي كان يسيطر عليها رجل الأعمال ميخائيل كودوركوفسكي، والتي جرى تأميمها لا حقاً من طرف فلاديمير بوتين. وعليه، فإن هذه التجربة الليبرالية الفاشلة التي عاشتها روسيا في عهد الرئيس يلتسين، كانت لها تداعيات في غاية السلبية على التوجهات السياسية الروسية في الداخل والخارج، فقد رأى بوتين، ومعه النخبة القومية الحاكمة في المرحلة الراهنة، أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة استغل الاضطرابات التي عرفتها موسكو بعد سنة 1991 من أجل تشجيع نخبة جديدة من رجال المال الروس على السيطرة على مقاليد السياسة والاقتصاد في البلد، وجعله تابعاً للغرب بشكل كامل. وهذا ما يفسّر التراجع الكبير الذي شهده الاتجاه الليبرالي لمصلحة التوجهات القومية المحافظة، منذ نهاية سنة 2004؛ لأن الولاية الرئاسية الأولى لبوتين جرت في سياق كانت تهيمن عليه الأوليغارشية الموروثة عن مرحلة الرئيس يلتسين، ولم يتمكن بوتين من بسط هيمنته على السلطة بشكل فعلي، إلا بعد تفجّر قضية شركة (لوكوس).
أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية فإن مجمل المراقبين يرون أن موسكو لن تغيّر على المدى المنظور خياراتها السياسية الكبرى، انطلاقاً من قناعتها أن الزمن يعمل لمصلحتها، وليس لمصلحة خصومها الذين سيكون عليهم إحداث تغييرات كبيرة في سياساتهم الخارجية، وبالتالي فإن روسيا تراهن منذ فوز ترامب بمنصب الرئاسة، على حدوث تحولات معتبرة وملموسة في توجهات السياسة الخارجية لدى الدول الغربية، بخاصة بعد الانتخابات التي ستعرفها بعض الدول الأوروبية الكبرى، مثل ألمانيا وفرنسا، التي من المنتظر أن تكون مناسبة لعودة قوى اليمين المحافظ المعروف بعلاقاته الجيدة مع موسكو.
روسيا بدأت تعمل خلال السنوات الأخيرة على فك الحصار المضروب عليها من طرف الدول الغربية، خاصة في أوروبا الشرقية، من خلال رسم معالم سياسة خارجية قائمة على التوجه نحو الجنوب، ومحاولة نسج علاقات استراتيجية مع مجموعة من القوى الصاعدة، حيث إنه وبموازاة العلاقات التاريخية التي تربط موسكو بدول آسيوية كبرى، مثل الصين والهند، فإنها تحث الخطى من أجل إقامة شبكة جديدة من العلاقات مع دول عدة كانت تربطها علاقات تقليدية مع أمريكا والدول الأوروبية؛ كأنها تحاول بذلك أن تستبق التحولات الجيوسياسية والجيواستراتيجية التي تحدث في العالم والتي تتميز بتراجع النفوذ الأمريكي في الكثير من مناطق العالم، وفي مقدمها منطقة الشرق الأوسط التي باتت موسكو تسهم في إعادة تشكيل توازناتها الكبرى بشكل لافت.
وبالرغم من التداعيات السلبية للأزمة السورية على العلاقات الروسية مع بعض الدول الإقليمية، فإن موسكو تراهن، في ما يبدو، على الإسراع في إيجاد حل سياسي سريع للمعضلة السورية من أجل استئناف ديناميكية علاقاتها مع دول الخليج العربي، حتى لا تبدو أمام العالم كأنها باتت الحليف الحصري لإيران في المنطقة. يحدث كل ذلك بموازاة التطور الكبير الذي باتت تشهده العلاقات الروسية المصرية، إضافة إلى علاقات موسكو المتميّزة مع كل من الجزائر والمغرب وليبيا، بخاصة بعد أن بدأت مختلف الأطراف السياسية المتصارعة في ليبيا تراهن على دور محوري لروسيا في المرحلة المقبلة؛ كما أن العلاقات الروسية ببقية دول الجنوب، في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، ما فتئت تشهد تطورات جدية على جميع الصعد. ونستطيع أن نخلص عطفاً على ما سبق إلى أن الحصار الذي تواجهه موسكو سمح لها بإحداث تغييرات كبرى على مستوى إعادة تموقعها العسكري والسياسي عبر مناطق عدة من العالم؛ في انتظار ما ستفرزه الانتخابات الأوروبية من تحولات يمكن أن تساعد قادة الكرملين على تجاوز حالة الاستقطاب والتوتر الحاد مع القوى الغربية الكبرى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"