في أجواء منعطف “دراماتيكي”

04:32 صباحا
قراءة 4 دقائق
رغم ما يبدو من سهولة تنفيذ الحملة العسكرية المرتقبة على تنظيم "داعش"، فمما لا شك فيه أن ثمة صعوبات تكتنف هذه الحملة ومحاذير تحف بها . ومن أبرزها الخشية من أن يُضار مدنيون بهذه الحملة، مع توقع أن يعمد "داعش" إلى إعادة التموضع والانتشار، مع تثبيت وجوده في مدن مثل الموصل ثم في الرقة ودير الزور . إلحاق أية أضرار جسيمة بالمدنيين سوف يسهل استغلاله لرفع الصوت ضد الحملة والتشكيك بأهدافها . ولنا أن نلاحظ منذ الآن أن تيارات إسلامية منها جماعة الإخوان في الأردن أخذت تنضم لأصوات تندد بهذه الحملة . وليس سراً أن بعض التنظيمات الإسلامية المعارضة في سوريا تتحفظ على هذه الحملة، وتلتقي بذلك مع النظام في دمشق وإن لأسباب مختلفة . هناك إذن فرصة لخلط الأوراق السياسية في سوريا، وكذلك في العراق باستخدام ذريعتين أولاهما المساس بالسيادة، والثانية التشكك في الأهداف كما تُعبّر بعض الأطراف العراقية .
تركيا من جهتها ما زالت تتخذ موقفاً غير متحمس للحملة فهي لن تشارك بها، ولم توقع على بيان جدة (الدول العشر) لكنها أعلنت أنها في الوقت نفسه لا تقف ضد الحملة . فيما صحف تركية معارضة تلمح لعلاقة ما بين أنقرة ومنظمات متطرفة . إنها فرصة لأطراف إقليمية عدة إذن من أجل خلط الأوراق، واهتبال هذه الفرصة في سبيل تمرير أجندات خاصة لهذا الطرف أو ذاك . وخلط الأوراق قد يتخذ وجهة تتعدى الاعتبارات السياسية إلى القيام بأنشطة مسلحة هنا وهناك على وقع الغارات الأمريكية المرتقبة . المعادلات الأمنية في المنطقة قد تتعرض لحالة سيولة والى قدر من الفوضى إذا لم تحسن الأطراف العربية المعنية بلورة سياسة خاصة بها ترعى مصالح الدول والمجتمعات العربية . هذا في وقت يقتصر فيه الاهتمام الأمريكي على إقصاء شبح "داعش" وما يشاكلها عن الغرب عموماً والولايات المتحدة بخاصة . أما الارتدادات الإقليمية والتفاعلات الداخلية للحملة فأمر تنظيمها متروك لدول الإقليم صاحبة الشأن .
والراجح أن الاعتراضات المتناثرة هنا وهناك على الحملة المرتقبة تفتقد إلى الكثير من المصداقية، إذ فات المعترضون أن يعترضوا على وجود هذا التنظيم منذ نشأته وحتى نموه وتمدده، أو أن يخوضوا معه سجالات ذات قيمة استناداً إلى احكام الدين وسيادة الدول . وقبل ذلك فقد فات هؤلاء أن إشاعة بيئة من التطرف الشديد والبطش الدموي والفرز الاجتماعي والمناطقي، وموجات التطهير والتهجير هي التي اسهمت في إنجاب هذا التنظيم الدخيل ووفرت له ظرفاً مواتياً وفرصة سانحة كي ينبت كما تنبثق نباتات وكائنات هجينة وسط الخرائب .
وإذ يُعنى الغرب بالجانب العسكري والتقني في تعامله مع هذا المستجد الخطير، فلا شك أن دور الدول والمجتمعات العربية خلالئذ وبعئذ، يتمثل في إطلاق موجة من النقد والنقد الذاتي لمجمل الظروف الموضوعية التي أفضت بنا إلى هذا المنحنى الخطير، موجة تعيد للأشياء بداهتها ابتداء من الإدانة المطلقة لاستهداف المدنيين في كل مكان في كل أرض عربية في المشرق، واعتبار ذلك سلوكاً داعشياً وليس أقل من ذلك . فلا يُعقل أن ننعي على الأعداء الصهاينة استهدافهم لمدنيين فلسطينيين ولبنانيين وسواهم، ثم نصمت عن استهداف مماثل لمدنيين من شعوبنا لمجرد أن الفاعلين هم عرب من أبناء جلدتنا! .
إن الحملة العسكرية على "داعش" ستكون حرباً على القشور لا على "الجوهر"، على العَرَض لا المرض، إذا لم تقترن بحملة سياسية نزيهة ورشيدة وحازمة ضد كل مظاهر التطرف والتطييف والفرز الاجتماعي والعنف الوحشي الأعمى، أياً كان مصدرها، والتي تنخر مجتمعات في المشرق، والتي كثيراً ما يجري فيها تلبيس هذه المظاهر لبوساً فخيماً كتصويرها على أنها من قبيل الوقوف ضد المؤامرات، والحشد ضد الأعداء الخارجيين . فيما "العدو" الفعلي المستهدف في هذه الحالات هو الشريك الوطني، ومآلها الوحيد هو تمزيق المجتمعات والكيانات ورفع الحواجز الصفيقة بين المكونات الوطنية، وبالتالي تحقيق ما عجزت القوى الخارجية المعادية عن تحقيقه من اختراق جسيم للمجتمعات، وهتك نسيجها وإضعاف تماسكها وتبديد منعتها الذاتية .
لقد نشأت "داعش" في بيئتنا وبين ظهرانينا، مستثمرة التشوهات التي لحقت بمجتمعاتنا، ومستغلة ما تعرضت له العدالة من تجريف، وشيوع نزاعات أهلية سابقة على نشوء هذا التنظيم . ولو اقترب المرء إلى التخصيص بعد التعميم، فإن ظاهرة "داعش" لا تجد علاجاً شافياً لها إلا بحكم وطني توافقي في العراق، لا محل فيه للميليشيات الطائفية والأحزاب المسلحة، والتدخلات الخارجية المكشوفة منها والمستترة . وكذلك الأمر في سوريا، فإذا ما استمرت المعادلات الصفرية في الصراع وتجريف أحياء ومناطق وحتى مدن كاملة، وتهجير المزيد من الأبرياء، فإنه من السخرية بمكان الإدعاء بأن هذا المناخ المسموم الزاخر بالتطرف، يمكن أن يوفر بيئة صالحة لمكافحة التطرف . وفي لبنان لا بد من العودة إلى سياسة النأي بالنفس التي توافق عليها معظم الفرقاء قبل نحو عام من الآن في ما عرف ب"إعلان بعبدا" لوقف الارتدادات الكارثية للأزمة السورية على هذا البلد، ومنها تسرب "داعش" إلى الأراضي اللبنانية، مع تجريم الشحن الطائفي ووضع حد لظاهرة الأمن الذاتي، والالتفاف حول الدولة والجيش الوطني .


محمود الريماوي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"