في الذكرى العشرين لمجازر رواندا

04:53 صباحا
قراءة 3 دقائق
فاجأ الرئيس الرواندي بول كاغامي كثيرين عندما اتهم فرنسا ليس فقط بالتواطؤ، وإنما بالتحضير والمشاركة في المجزرة الكبرى التي بدأت في السابع من إبريل/ نيسان واستمرت حتى الرابع من يوليو/ تموز 1994 وأودت بحياة ثمانمئة ألف من التوتسيين . وقد رد الفرنسيون بأنهم لن يشاركوا في احتفالات الذكرى العشرين للمجزرة التي تقام في رواندا، ويدعى إليها عدد كبير من القادة الأفارقة والدوليين .
عملية "توركواز" الفرنسية، بقيادة الجنرال فاروكاد، التي تدخلت بذريعة حماية المدنيين، شكلت غطاء لهجوم قوات الهوتو على التوتسيين، وذلك غداة مقتل الرئيس الرواندي جوفينال هابريمانا في السابع من إبريل/ نيسان ،1994 بانفجار طائرته في سماء العاصمة كيغالي . وقد صرح الأمين العام للأمم المتحدة بان-كي مون بأن منظمته تشعر بالخجل إزاء ما حدث وقتها، لاسيما وأن جنود القبعات الزرق التابعين لها قد انسحبوا عشية هجوم الهوتو .
كلام الرئيس كاغامي يضع حداً مفاجئاً لمسار المصالحة بين باريس وكيغالي الذي بدأه الرئيس ساركوزي ويتابعه الرئيس هولاند . وكاغامي كان، في العام ،1994 زعيماً للجبهة الشعبية الرواندية المعارضة للرئيس هابريمانا، الذي كان موالياً لفرنسا . وقد انتصرت الجبهة في الحرب الأهلية فأضحى كاغامي رئيساً لرواندا ولا يزال . ومشكلته مع العدالة التي يطالب بها منذ ذلك الوقت أن المتهم بالمجازر ليس فقط الهوتيين، بل قوة عظمى هي فرنسا التي شكلت في العام 1998 لجنة برلمانية للتحقيق فيما حصل وخلصت الى أن الذنب الفرنسي يقتصر على "أخطاء في تقدير الأوضاع" و"خلل مؤسساتي" وليس البتة تواطؤاً ما أو مشاركة ولو غير مباشرة في العمليات العسكرية والمجازر .
وقد دفع هول المجازر الى تدخل مجلس الأمن الدولي في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 1994 فأصدر القرار 599 القاضي بإنشاء محكمة الجزاء الدولية الخاصة برواندا والتي لم تر النور إلا في العام 2000 لتدخل في جدل قانوني حول صلاحياتها لاسيما الحكم في جرائم حدثت قبل إنشائها . وبالتوازي تشكلت محاكم في رواندا وتدخلت محاكم بلجيكية وفرنسية، إثر دعاوى أقامها أهالي ضحايا لتصدر بعض الأحكام القليلة على بعض العسكريين، وكلهم روانديون في وقت لم يثبت أي شيء على الفرنسيين، الأمر الذي دعا الرئيس كاغامي الى اتهام فرنسا بهذه الطريقة العلنية .
والحقيقة أن باحثين فرنسيين وأوروبيين وجمعيات ومنظمات غير حكومية ومؤرخين وغيرهم قاموا بتحقيقات واستجوابات ومقابلات مع شهود في رواندا دلت على تواطؤ فرنسي في المجازر . وهو ما ينكره تماماً الحزبان الكبيران الاشتراكي واليميني في فرنسا واللذان كانا في السلطة معاً وقتذاك . فالرئيس الاشتراكي ميتران، كما رئيس وزرائه اليميني إدوارد بالادور في حكومة التعايش بين اليمين واليسار، اتفقا على ضرورة الدفاع عن مربع النفوذ الفرنسي في إفريقيا عبر تقديم الدعم العسكري واللوجستي للرئيس الرواندي هابريمانا وهو من الهوتو، الذي قام أنصاره فور مقتله بارتكاب آخر عملية تطهير عرقي في القرن العشرين، كما يصفها بعض القانونيين الدوليين .
وليس من قبيل المصادفة أن يتسابق اليسار الحاكم واليمين المعارض في باريس اليوم على التنديد بتصريحات الرئيس الرواندي، واتهامه بالتحيز والسعي للثأر بدل المصالحة وبناء دولة عصرية حقيقية، فكثير من المسؤولين الفرنسيين الحاليين كانوا وقتها في الحكم وبالتالي يشعرون بأن أصابع الاتهام تشير إليهم . ومن جهته والحق يقال، فإن الرئيس الرواندي يحكم بطريقة استبدادية وقد راكم الفشل على الفشل في كل الميادين الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، والمحاكم الرواندية تصدر أحكاماً فيها الكثير من التحيز والثأر من الهوتو والقليل من العدالة والحياد، الأمر الذي يوفر للفرنسيين ذرائع كثيرة لابتزازه والرد على تصريحاته .
حالة رواندا التي حصلت على استقلالها في العام 1962 بعد أن عانت الاستعمار البلجيكي ثم الفرنسي، نموذج لما هي عليه القارة السمراء: حدود رسمت بطريقة اعتباطية لناحية توزيع السكان المختلفين إثنياً وعرقياً ودينياً، وذلك تلبية لمصالح استعمار يرحل شكلاً وليس مضموناً، وحروب أهلية مستمرة تجعل الحاجة دائمة إلى تدخل المستعمر القديم، وثروات يستمر في نهبها هذا الأخير، وحكام لا همّ لهم سوى البقاء في السلطة وتوريثها، وفقر ومرض وتخلف . . .إلخ . أما العدالة التي يسعى اليها الروانديون فلن تعدو معاقبة هوتيين يثبت ذنبهم، أما القوى العظمى لاسيما التي تملك مقعداً دائماً في مجلس الأمن فالعدالة الدولية تقف عند بابها ولا تستطيع اجتيازه .

د .غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"