في فرنسا يعاقب من ينتقد “إسرائيل”

03:18 صباحا
قراءة 5 دقائق

في 13 مارس/آذار الماضي نشر برونو غيغ نائب رئيس مديرية منطقة سانت ، الواقعة في جنوبي غربي فرنسا، مقالا في موقع امة. كوم يقول فيه ان إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي يقتل فيها قناصة فتيات لدى خروجهن من المدرسة، ويسخر من السجون الإسرائيلية حيث يتوقف التعذيب بحكم القانون الديني، الذي يحظر العمل خلال السبت اليهودي. وغيغ يمارس الكتاية السياسية، على هامش عمله الإداري، إذ نشر مقالات وكتباً عديدة منها الشرق الأوسط: حرب الكلمات.

بعد أقل من أسبوع واحد على نشر مقال غيغ الذي أحيطت علماً به وزيرة الداخلية ميشيل اليوت - ماري قررت هذه الأخيرة وضع حد فوري لمهام غيغ في المديرية المذكورة بذريعة أنه أخلّ بواجبه كموظف والذي يفرض عليه التحفظ. بالطبع، لم يكن منتظرا من وزيرة الداخلية الفرنسية أن تقول صراحة ان غيغ عوقب فقط لأنه انتقد إسرائيل بوضوح يفيض عن المتاح والمسموح به في فرنسا. ولكن الجميع يعلم أنها بعد أن أخطرت بأمر المقال اضحت عاجزة عن تجاهله لئلا يتعرض مستقبلها السياسي للخطر في مواجهة اتهامات محتملة لها بأنها تهاونت مع موظف معاد للسامية يعمل تحت إمرتها. وللتذكير فقط فإن اليوت - ماري كانت وزيرة للدفاع في عهد الرئيس السابق جاك شيراك، ويرد اسمها في لائحة المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية أو الحكومة.

قضية غيغ تعيد فتح نقاش لم يغلق في الأصل بين أولئك، من المراقبين، الذين يؤمنون بوجود لوبي صهيوني يمارس نفوذاً فاعلاً لدى السلطات الحاكمة في دول غربية كبرى عدة فيدفعها لتبني سياسات مؤيدة ل إسرائيل، وأولئك من المحللين، الذين يعتقدون بأن قصة اللوبي هذه مبالغ فيها ومن صنيع المتخيل العربي والإسلامي بهدف تبرير العجز في مواجهة إسرائيل.

لكن بعيداً عن المبالغة وأطروحة المؤامرة، وسواء كان هناك لوبي منظم أو ممأسس (على غرار ال إيباك في الولايات المتحدة) أم كان هناك مجرد نفوذ يهودي عام، فلا تنقص الدلائل على وقوع الرأي العام الفرنسي عموما تحت هيمنة أفكار أصبحت مسلمات لا تناقش، يصنف مجرد التساؤل عن حقيقتها في باب الجرائم والمحرمات (تابو).

في عودة إلى الماضي القريب فإن قضية غارودي-الأب بيار في ربيع العام 1996 أضافت دليلاً جديداً على حالة الأسر التي يعيشها المثقف الغربي الذي يجرؤ على مجرد الدعوة إلى التفكير في صحة مقولات رائجة، لاسيما تلك المتعلقة بالهولوكوست والممارسات النازية بحق اليهود إبان الحرب العالمية الثانية. جريمة الفيلسوف روجيه غارودي كانت قيامه بنشر كتاب بعنوان الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية يشكك فيه بصحة المقولات السائدة حول الإبادة الجماعية التي تعرض لها اليهود خلال الحرب العالمية الثانية والقائلة بسقوط ستة ملايين ضحية يهودية قتلا وحرقا في أفران الغاز النازية.ورغم الحذر العلمي الشديد بل المفرط أحيانآً لهذا الكتاب الذي لم يتفوه بكلمة واحدة من دون الاستناد الى مصادر موثوقة ويهودية أو إسرائيلية، ورغم اعتماده منهجية أكاديمية لا غبار عليها فإنه تسبب له بهجوم لا سابق له من وسائل الإعلام والجمعيات المناهضة للعنصرية ومعاداة السامية ومن السياسيين الوصوليين وغيرهم الذين وصفوه بالفاشي والمجنون والإسلامي المتعصب.. الخ. وصولاً إلى محاكمته ومنع كتابه وإعلان الحرب النفسية المستمرة عليه والتي لم تتوقف بعد وفاته. وهذا ما حصل بالضبط للأب بيار وهو كاهن مناضل ضد الكنيسة والبابا والسلطة السياسية نذر نفسه للفقراء والمشردين منذ العام 1954 عندما أسس جمعية ايمايوس لرعاية المشردين والفقراء. كان الأب بيار الشخصية الأكثر شعبية في فرنسا طيلة عقود عديدة بحسب كل استطلاعات الرأي العام، إلى أن ارتكب الخطأ القاتل في ذلك الربيع من عام 1996. وقتها دافع عن صديقه غارودي ممتدحاً كتابه العلمي والموضوعي بكل المعايير، كما قال داعياً إلى الكف عن اعتبار الدعوة إلى مناقشة الحقبة النازية من المحرمات. كان يكفي للرجل الأكثر احتراماً في فرنسا أن يتفوه بهذه الجملة الواحدة حتى يتنافس المتنافسون على وصفه بالأخرق والمجنون والإنكاري والمعادي للسامية الذي أزاح القناع عن وجهه... إلخ، وانتهى الأب بيار كما انتهى صديقه غارودي محاصراً معزولاً مكتئباً حتى الموت.

وكانت وزارة التربية والتعليم العالي الفرنسية قد ألغت شهادة دكتوراه دولة في التاريخ حصل عليها طالب فرنسي في عام 1994 من جامعة نانت (غربي البلاد) فقط لأنها تشكك بالأفكار الرائجة حول المحرقة اليهودية. وأطروحة الدكتوراه كما هو معروف عمل علمي له اصول وشروط أكاديمية حازمة ولا يصبح نافذاً إلا بعد مثوله أمام لجنة مؤلفة من خمسة أساتذة مشهود بكفاءتهم. ولم يحدث في العالم أن سحبت دكتوراه من أدراج الجامعة وطعن بصحتها لمجرد أن جماعة دينية أو عرقية أو سياسية استنكرت ما جاء فيها.

في الإطار نفسه وللتذكير أيضاً، فإن الكاتب السياسي الفرنسي المعروف باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، أثار قضية اتهام من ينتقد إسرائيل بأنه معاد للسامية في أحد مقالاته، في جريدة لوموند في اغسطس/آب 2001 والتي تحولت إلى كتاب بعد ما أثارت عاصفة من الجدل. في هذا الكتاب هل من المسموح به انتقاد اسرائيل؟ (الصادر عن دار روبير لافون الباريسية في عام 2003) يندد بونيفاس (الذي عوقب بالمناسبة إذ طرده الحزب الاشتراكي من صفوفه وشنت عليه أعتى الحملات المشككة بصدقيته...) بما يسميه الإرهاب الفكري الذي يتهم كل من ينتقد الحكومة الإسرائيلية بأنه معاد للسامية، معتبراً أن إسرائيل دولة ديمقراطية وبالتالي عليها أن تتقبل الانتقادات الموجهة إلى سياساتها. بالطبع، اضطر بونيفاس ان يوازن ما بين المدائح والانتقادات حيال اسرائيل التي يعترف بحقها الشرعي في الوجود ضمن حدود آمنة ومعترف بها من دون أن تعني الانتقادات الموجهة إلى حكومتها وسياستها تراجعاً عن الاعتراف بهذا الحق، كما يقول. ولو لم يحرص يونيفاس على هذا التوازن لكان لقي على الأرجح مصيراً مشابهاً لكل من يتجاوز في انتقاداته ل إسرائيل الخطوط الحمر التي بات يعرفها الجميع.

هل هناك حرية تعبير في فرنسا؟ بلى بالتأكيد، فرنسا بلد الحريات، والثورة الفرنسية أسست لعبادة هذه الحريات وأطلقتها في أرجاء المعمورة الواسعة. في فرنسا يمكن للمرء التعبير عن آرائه من دون خوف أو تردد فينتقد كل شيء من رأس الدولة إلى أسفلها بأشخاصها ومؤسساتها الزمنية والدينية. وهذه حال كل الديمقراطيات الغربية التي تغار على مثقفيها وكتابها فتحميهم باسم حرية التعبير، حتى عندما ينشرون نصوصاً وصوراً كاريكاتورية تستفز مئات الملايين من البشر، لا سيما المسلمين منهم. لكن هناك استثناء واحداً وحيداً لا تجرؤ حرية التعبير على تخطيه: الخطوط الحمر التي يقررها ويرسمها اللوبي الصهيوني.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"