في مقبرة الإنترنت شاهدٌ لكل واحد منَّا

04:43 صباحا
قراءة 3 دقائق
لو استطعنا أن نعود بالزمن إلى الوراء، إلى الوقت الذي لم يكن فيه للإنترنت وجود في حياة البشر، لرأى كل واحد منا نفسه وحيداً مع أفكاره وتطلعاته . ففي ذلك العالم الذي كان يطغى فيه وجود الشخص المادي على أي شيء آخر، كنَّا نبحث بكل عناء عمن يصغي إلينا، هذا إن كان لدينا ما يستحق الإصغاء إليه!
في ذلك الزمن، لو تجلت لك الصورة بوضوح، كان على من يريد لفت الانتباه إليه أن يحمل أفكاراً تسحر الناس وتجذبهم، أو أن يتمتع بموهبة تبهرهم، أو أن يعرف حق المعرفة ما سيخوض فيه، أن يدرك كلَّ كلمة قبل أن تنبس بها شفتاه، وأن يقدر كلَّ عمل قبل أن تنجزه يداه . . . فمن كان يريد أن يترك خلفه إرثاً خاصاً يستمر من بعد رحيله، كان يتوجب عليه أن يملك واحدة أو أكثر من هذه القدرات . . .
قد تكون عزيزي القارئ من الذين لم يعرفوا ذلك العالم البكر الذي يبدو خيالاً أكثر منه واقعاً، وقد تكون من الذين أبصروا النور في عالم فيه من السهولة ما يجعلك قادراً على تبادل ومشاركة أفكارك مع الآخرين من دون أن تضطر لخوض معارك من أجل تحرير ما لديك، أو من أجل أن تفك القيد عن صوت لمَّا يزل عالقاً في حنجرتك!
عالمنا اليوم يعاني الفصام، فقد بات كل واحد منا يعيش في مكانين مختلفين؛ أحدهما مادي والآخر افتراضي . وقد يجد الكثيرون منا اليوم صعوبة في التواصل بين هذين المكانين وكأننا فقدنا ذاتنا في هوية حديثة أردناها لأنفسنا .
ها أنا أقعد خلف طاولة المكتب في العالم الواقعي، أسطر كلمات في لحظات يغادر فيها البعض الدنيا ويرحلون إلى العالم الآخر . . . هكذا نحن البشر محكومون بالفناء، لكن الأمر ليس كذلك في العالم الافتراضي ، فالمرء الذي يفنى في الواقع يبقى حقيقة خالدة في مواقع التواصل الاجتماعي حيث يخلف الصور والتعليقات والتفاعل مع الآخرين والتي ستظل تسبح في فضاء العالم الافتراضي إلى الأبد . فقد صدر مؤخراً تقرير عن شركة ''إنترنيت مونيتور'' للأبحاث، يفيد أن عدد الموتى بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي سيفوق عدد المستخدمين من الأحياء . ويُقدَّر حالياً وجود ما يقارب 20 مليون حساب على "الفيسبوك" لأشخاص وافتهم المنية .
والحال كذلك، ألا تخلِّد مواقع التواصل الاجتماعي في العالم الافتراضي من رحلوا عن العالم الواقعي وتسهم في استمرارهم؟ أولاً تستحق هذه الأرقام الخيالية منا أن نعيد التفكير في وجودنا في العالم الافتراضي وفي كثرة استخدامنا للإنترنت؟ لكن شخصيتنا الافتراضية، التي نتحكم بها على وسائل التواصل الاجتماعي قد لا تعكس ما نريد أن يتذكرنا به الآخرون؟
إن العفوية التي نتشارك بها مع العالم بأفكارنا، تجعل شخصيتنا الافتراضية أكثر عرضة للتعميمات الانفعالية التي تصل أحياناً إلى مستوى التعليقات الكريهة . ففي الشاشة التي تعرض أمام ناظرينا أمناً كاذباً يظهر من شخصيتنا جانبها القبيح . والحقيقة أن مشاعر الانفعال والكراهية والقبح ستظل عائمة في الفضاء الإلكتروني بعد زمن طويل كنا خلاله قادرين على الدفاع عنها، وهذا بحدّ ذاته سبب كافٍ لنتراجع خطوة على الأقل ونفكر في أن نبتعد للحظة عن حواسيبنا وهواتفنا الذكية .
بعد لقائي في العالم الواقعي بالعديد من الأصدقاء الذين كنت أتواصل معهم عبر الإنترنت، وجدت أن هناك الكثيرين منهم لا ينصفون أنفسهم . وقد لاحظت أن أصحاب الحسابات الأكثر صخباً وعرضة للانتقاد على وسائل التواصل الاجتماعي، هم أقل الناس كلاماً في الحياة الواقعية . ويمكنني التأكيد أن أغلبية جبابرة وسائل التواصل الاجتماعي ليس لهم أرض تأويهم في العالم المادي!
مقبرة فضاء الإنترنت تتسع أكثر فأكثر، وقد أصبحت تعجُّ بأفكار أناس موجودين في حالة افتراضية، لذا علينا أن ننصف أنفسنا، وأن نبذل كل ما في وسعنا لنكون مخلصين لها . بحيث نوجد توازناً بين ذاتنا الحقيقية وتلك التي تسبح في العالم الافتراضي . فما ندونه وننشره في حساباتنا على مواقع التواصل سيبقى ميراثاً نخلفه وراءنا بعد رحيلنا عن العالم الواقعي شئنا ذلك أم أبينا . لذا لا بد وأن نخلف من بعدنا ما نتمنى أن يتذكرنا به الآخرون، و ما نرغب في أن يكون لنا فخراً لديهم .
الحساب على الإنترنت لن يكون سوى ضريح يزوره الأصدقاء والأحباب من بعدنا كلما تأجَّج شوقهم إلينا، فبالكلمات التي ننشرها تستمر حياتنا، فلم لا نترك لهذه الكلمات آثاراً إيجابية وفائدة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؟


عائشة تريم
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"