قمة التراجعات

04:42 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

باستثناء «إسرائيل» كل من يراهن على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يخسر الرهان. لا يثبت الرجل على أي موقف، ولا يمل من إطلاق التصريحات المتضاربة. وقمة مجموعة السبع في فرنسا التي شارك فيها الأسبوع الماضي، كانت شاهداً جديداً على تراجعاته المتكررة وتناقضاته المستمرة. في بعض الأحيان تكون تقلباته محمودة، فقد توقع الصحفيون أن يفجر القمة كما فعل في سابقتها بكندا العام الماضي، إلا أنه خذلهم وبدا لطيفاً مهذباً ولم يُثر الانقسامات خلافاً لعادته.
راهنوا أيضاً على أنه سيحرج مضيفه؛ أي نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، كما فعل مع مضيفه الكندي من قبل ووصفه بكلمات مهينة لا تصدر عن قادة الدول، إلا أنه كان دمث الخلق كريماً ومجاملاً. عامل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وهي صاحبة نصيب لا يستهان به من انتقاداته الشرسة، بلطف غريب وعانقها بحرارة، طابعاً قبلتين على وجنتيها.
غير أن تلك التراجعات الإيجابية لم تكن الأهم في القمة التي أطلق خلالها حزمة من التصريحات المثيرة للدهشة لتناقضها الصارخ مع أقواله ومواقفه السابقة. احتلت حربه التجارية مع الصين الصدارة في سيمفونية التناقضات التي عزفها، ولخصت صحيفة نيويورك تايمز القصة بتعليق ساخر، قالت فيه، إن الرئيس كان يغير موقفه من الحرب التجارية يوماً بعد يوم؛ بل ساعة إثر أخرى. وتساءلت مخاطبة قراءها: «هل تتذكرون عندما كان الرئيس الصيني عدواً؟ كان هذا يوم الجمعة الذي سبق القمة، والوصف جاء على لسان ترامب. إلا أن نفس الرجل أصبح زعيماً عظيماً وشخصاً رائعاً بعد ثلاثة أيام فقط، وعلى لسان ترامب أيضاً!».
بالفعل ذهب ترامب إلى فرنسا وهو يشهر كل أسلحته الدعائية في وجه الصين، ويُهددها بمزيد من التعريفات الجمركية، إلا أنه في ختام القمة تحدث عن انفراجة لا يعلم أحد مصدرها، متوقعاً إبرام اتفاق بعد أن تلقت إدارته اتصالين (ثم قال لاحقاً عدة اتصالات) من الجانب الصيني الذي نفى تقديم تنازلات، مؤكداً أن التفاوض كان مطلباً صينياً دائماً.
إيران أيضاً كانت ميداناً لتراجع آخر ربما أكثر إثارة؛ إذ أعلن استعداده للقاء رئيسها حسن روحاني. ولم يعترض على دعوة ماكرون المفاجئة لوزير خارجيتها للحضور خلال القمة. وترامب الذي انسحب من الاتفاق النووي مع إيران، وفرض عليها عقوبات صارمة لم يسبقه إليها أي رئيس أمريكي، هو نفسه الذي قال في نهاية القمة إن تلك الدولة لم تعد كما كانت منذ عامين ونصف العام، عندما تولى السلطة، دون أن يوضح كيف تغيرت. وإذا كانت قد تغيرت بالفعل، فلمَ يواصل معاقبتها؟.
وبصفة عامة، لا تقتصر التراجعات والتناقضات في سياسات ومواقف ترامب على الملفين الإيراني والصيني. وفيما عدا الانحياز الكامل ل«إسرائيل»، والوفاء بكل وعوده لها، وتلبية مطالبها، لم يثبت ترامب منذ بداية رئاسته على أي موقف. هدد بمحو كوريا الشمالية من الوجود، وهو نفس التهديد الذي وجهه يوماً إلى إيران وأفغانستان، إلا أنه التقى الرئيس الكوري الشمالي، وتفاوض مع حركة طالبان الأفغانية، ووعد بلقاء روحاني، ولن يمر وقت طويل قبل أن تتأكد صحة التسريبات الأخيرة بأنه يريد التفاوض مع الحوثيين في اليمن. وكما تراجع عن تنفيذ تعهده بالانسحاب من سوريا، فقد اضطر للبقاء في أفغانستان والعراق.
هدد ترامب من قبل بتقليص التزامات بلاده تجاه الحلفاء في «الناتو»، إلا أنه لم يفعل شيئاً. وهدد بحرب تجارية مع الحلفاء الأوروبيين ثم هدأ تماماً. وقرر طرح خطته للسلام في الشرق الأوسط بعد الانتخابات «الإسرائيلية» ثم أعلن أنه سيطرحها قبل الانتخابات، ثم عاد وتراجع وقال إنه لن يطرحها قبل الانتخابات. دعا الشركات الأمريكية إلى الانسحاب من الصين، ثم شجعها على الاستمرار.
إنه ترامب.. لا تحاول أن تفهم موقفه؛ لأنك ستفشل. لو تحدث عن نفسه لما قال أكثر مما كتبه نزار قباني:
«أنا كماء البحر في مدي // وفي جزري وعمق تحولاتي
إن التناقض في دمي // وأنا أحب تناقضاتي».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"