قمة تونس والنظام الإقليمي العربي

03:06 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

شهدت تونس مؤخراً انعقاد أشغال القمة العربية الثلاثين، في ظرفية إقليمية يطبعها التأزّم والصراع، وتنامي التحديات المختلفة التي تواجه الدول العربية قاطبة. فالنظام الإقليمي العربي يشهد تردّياً بمكوناته العسكرية والاقتصادية والسياسية، فيما تفاقمت الخلافات العربية البينية، وتضاربت المواقف بشأن عدد من القضايا الإقليمية والدولية، وهو ما فتح الباب أمام عدد من القوى الدولية والإقليمية الكبرى لتفرض تدخلاتها وأجنداتها المدمرة في عدد من البلدان العربية، مستغلة حالة الفراغ الذي أحدثه تردّي العمل العربي المشترك، وتأزم أوضاع عدد من الدول التي خرجت من حسابات التوازن الاستراتيجي في المنطقة، كما هو الشأن بالنسبة للعراق وسوريا..
فقد تصاعدت الانتهاكات «الإسرائيلية» داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، عبر الاستمرار في اضطهاد الشعب الفلسطيني واعتقال شبابه، وفي بناء المستوطنات، وخرق كل الاتفاقيات المبرمة، وانتهاك القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة التي تدعم الحقوق الفلسطينية المشروعة في بناء دولة مستقلة. وجاءت الإدارة الأمريكية على عهد الرئيس الحالي لتعقّد الملف أكثر، ولتفضح الدور الأمريكي المتواطئ مع الاحتلال «الإسرائيلي»، فبعد قرار نقل السفارة الأمريكية من «تل أبيب» إلى القدس في تحدٍّ صارخ للقرارات الأممية ذات الصلة وللرأي العام الدولي الرافض لهذه السلوكات، وقّع «ترامب» على مرسوم يقضي بالاعتراف بسيادة «إسرائيل» على مرتفعات الجولان السورية المحتلة منذ عام 1967، قبل أن تضمّها عام 1981، في تنكّر واضح لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة..
بالموازاة مع كل هذه الإشكالات والتحديات، أضحت الأزمات المختلفة وبؤر التوتر في المنطقة خاضعة لأجندات دولية وإقليمية، عمّقت الجرح أكثر، وأدخلت العديد من الدول العربية في متاهات من الصراع والعنف والتشرذم، ولم تستطع جامعة الدول العربية أن تواكب هذه الأزمات بقدر من الفعالية والنجاعة، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى الوضع العربي الراهن، بما يعنيه ذلك من تفاقم للخلافات البينية، واستحضار الحسابات المصلحية الضيقة.
ولا تتوقف الإشكالات التي تواجه المنطقة عند هذا الحدّ، بل برزت كثرةٌ من المخاطر غير «الدولاتية» العابرة للحدود، كما هو الشأن بالنسبة للإرهاب، بعدما استغلت الجماعات الإرهابية تدهور الأوضاع السياسية والأمنية، لتفرض منطقها وتتمدد وتتوسع داخل عدد من بؤر التوتر، كما هو الشأن بالنسبة للصومال وسوريا والعراق واليمن..
شكلت قمّة تونس مناسبة لتداول أبرز الإشكالات والمخاطر التي باتت تهدد المنطقة العربية، فقد حملت بعض الخطب التي ألقيت خلالها رسائل قوية في هذا الشأن، كما أن البيان الختامي الصادر عن القمة تطرق إلى عدد من القضايا والملفات المطروحة، حيث تم الإعلان عن رفض التوجهات القاضية بفرض الأمر الواقع في الجولان والتأكيد على أنها أرض سورية محتلة.. كما تم التأكيد أيضاً على ضرورة وأهمية تجاوز حالة التصدّع والخلافات القائمة بين عدد من الدول الأعضاء، كمدخل أساسي واستراتيجي يعزّز تحصين الذات في مواجهة التدخلات والتحرشات الأجنبية، فيما تم الإعلان أيضاً عن رفض تدخلات بعض القوى الإقليمية في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، بالنظر إلى تداعياتها الخطِرة على أمن واستقرار المنطقة، مع المطالبة بإرساء علاقات تدعم حسن الجوار واحترام سيادة الدول مع هذه القوى، وأولت القمة اهتماماً كبيراً للقضية الفلسطينية كقضية محورية وأساسية ضمن أجندة العمل العربي المشترك، بالنظر إلى حجم التحديات التي باتت تواجهها من قبل الاحتلال «الإسرائيلي» وبتواطؤ أمريكي واضح المعالم، حيث دعا المشاركون في القمة إلى تأمين الحماية للشعب الفلسطيني في مواجهة الاعتداءات المتكررة للكيان «الإسرائيلي»، مع رفض وإدانة القرار الأمريكي القاضي بتحويل السفارة الأمريكية من «تل أبيب» إلى القدس، والمطالبة بوقف الاحتلال وإرساء سلام شامل انسجاماً مع مبدأ «الأرض مقابل السلام»، وكذلك الشأن بالنسبة لسعي الولايات المتحدة إلى الاعتراف بسيادة «إسرائيل» على الجولان..، مع التأكيد على رفض كل توجهات الاحتلال الإسرائيلي لتهويد القدس، وتغيير معالمها العربية والإسلامية.. واستأثرت الأزمات التي تشهدها كل من سوريا واليمن وليبيا في الوقت الراهن باهتمام كبير من لدن القمة، بالتأكيد على وحدة وسيادة ليبيا.. ودعا القادة العرب أيضاً إلى إرساء مزيد من التنسيق الأمني لمواجهة التطرف والإرهاب، مع التأكيد على أهمية التسامح والاعتدال وحوار الديانات..
ثمّة أسئلة مؤرقة يتجدّد طرحها مع انعقاد كل قمة عربية، وهي الأسئلة التي باتت أكثر إلحاحاً مع تدهور الأوضاع العربية الداخلية والبينية، واستمرار هدر الفرص والطاقات والإمكانات المتوفرة في معارك خاسرة، تغيب عنها الرؤية الثاقبة..
فما الجدوى من انعقاد قمم عربية، لا تقدّم جديداً، غير التأكيد على رفض الأوضاع وإدانة الاحتلال «الإسرائيلي»، وشجب التدخلات الخارجية في المنطقة، من دون القدرة على اتخاذ مبادرات وازنة، وعلى طرح بدائل وخيارات وأجندات ناجعة تفرض وجهة نظر العرب ميدانياً؟
إن حال الجامعة العربية هو نتاج طبيعي ومنطقي للأوضاع الصعبة التي تعيش على إيقاعها المنطقة العربية، ولذلك لا يمكن تحميلها أكثر من طاقتها، فالوضع العربي الراهن، يفرض تجاوز الخلافات البينية، والتركيز على المشترك بفرصه وتحدياته، كما يتطلب الأمر إصلاحات اقتصادية تسمح باستثمار الإمكانات البشرية والطبيعية.. المتوفرة في تحقيق الرفاه والتنمية، وفي تبوّؤ مكانة لائقة بين الأمم.. ونهج إصلاحات سياسية أكثر انفتاحاً تدعم الاستقرار، وتدبير الخلافات والصراعات بسبل سلمية، وبناء دول تتسع لجميع مكوناتها الاجتماعية..
إن تحصين «الذات العربية» عبر اعتماد هذه الإصلاحات والمبادرات هو الكفيل بتجاوز الحالة الراهنة، وصدّ كل التدخلات الأجنبية التي تستهدف دول المنطقة، بل وبإعادة الاعتبار للعمل العربي المشترك.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"