كم مرة سيلدغ العرب؟

02:18 صباحا
قراءة 3 دقائق

ها إن العرب سيلدغون من الجحر نفسه مرة أخرى، وها إن ذاكرتهم التاريخية لا تسعف حاضرهم، فأثناء صراعات الحرب الباردة أقنعت الولايات المتحدة الأمريكية الكثير من العرب بأن عدو الإسلام، وبالتالي العرب، الأسوأ والأخطر هو الاتحاد السوفييتي. ألم يقل منظر نظامه الشيوعي إن الدين هو أفيون الشعوب؟ ووصلت حملة الإقناع الملتبسة الماكرة تلك الى قمتها في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، عندما دخلت جيوش الاتحاد السوفييتي أفغانستان المسلمة. ويذكر الكاتب الأمريكي هنتنغتون في كتابه المعروف صراع الحضارات، أن أمريكا استطاعت آنذاك إقناع دولة عربية بصرف مبلغ ثلاثة مليارات ونصف مليار من الدولارات ما بين أعوام 1984 و1989 لتجنيد وتدريب ودعم حوالي خمسة وعشرين ألف متطوع من العرب والمسلمين، ليخوضوا حرباً دينية نيابة عن أمريكا وضد عدو أساسي من أعدائها، يقف حجر عثرة أمام هيمنتها العالمية. وهكذا، وبدلاً من تركيز العرب والمسلمين آنذاك كل طاقاتهم المادية والبشرية ضد عدو استيطاني صهيوني غاصب ومهدد لوجودهم كأمة، انشغلوا بمعركة هي في أساسها وأهدافها البعيدة المدى معركة أمريكية بامتياز.

اليوم، حل محل شعار الدين أفيون الشعوب المختلف حول ما كان يعنيه في ذهن قائله، والذي كان موجهاً ضد كل الأديان وليس دين المسلمين فقط، شعار أكثر تحديداً وخطراً وهو شعار أن الإسلام هو دين شيطاني، مرتبط بالعنف والمعاداة للحضارة الإنسانية، وبالغدر الهمجي عبر تاريخه. وهو شعار يحتوي على تنميط عنصري ظالم للعربي يختزله في خمس صور، فهو إما بدوي مغامر جلف، أو بائع لا يعرف إلا مساومة وخداع الآخرين، أو امرأة تجسد الشهوانية والصور المبتذلة، أو غني مسرف بابتذال وبلادة، أو إرهابي يمارس العنف الحيواني.

وهذا الشعار الجديد، وذلك التنميط الاجتماعي والثقافي الإقصائي ولدا في أمريكا بعد احداث 11 سبتمبر/ايلول، وهو يترسخ شيئاً فشيئاً في دوائر الإعلام والسياسة والأبحاث الأمريكية تمهيداً لجعله ثقافة كونية، مما يجعل شعار الدين أفيون الشعوب، الذي اعتبرته بعض الدوائر العربية آنذاك كأكبر كارثة وأعظم خطر هدد الدين الإسلامي والوجود العربي، شعاراً هزلياً بالمقارنة.

ومع كل تلك الوقاحة الفكرية والايديولوجية تعود أمريكا من جديد لتلعب اللعبة إياها: ليس عدوكم الخطر الصهيوني ولا تهديده المعلن لتهميشكم كأمة والسيطرة على حاضركم ومستقبلكم، وإنما عدوكم في هذه المرة هي ايران الدولة المسلمة. ومن أجل الهدفين الاستراتيجيين الأمريكيين، وهما الالتحام الكامل بالمشروع الصهيوني وجعله مشروعاً أبدياً والاستيلاء على الثروة النفطية، تلبس أمريكا في هذه المرة عباءة التأجيج المذهبي الطائفي، مثلما لبست من قبل عباءة المدافع عن أديان البشرية، وتطالب العرب بأن يقحموا أنفسهم في معاركها ويحاربوا نيابة عنها.

إنه الثعبان الأمريكي نفسه الذي استعمل العرب والمسلمين في الثمانينات لتدمير الاتحاد السوفييتي، ثم ها هو ينفث سموم العداء لثقافة العرب ودين المسلمين، والثعبان الأوروبي نفسه الذي استعمل العرب في القرن الماضي لتدمير الخلافة الإسلامية في تركيا، ثم نفث سموم اتفاقية سايكس - بيكو كتقدير لجهودهم.

لقد استغل الأمريكيون خلافاً فكرياً وأيديولوجياً بين العرب والنظام السوفييتي لمصلحة صراعات مصالحهم الاستراتيجية، وها هم يعودون لاستغلال خلافات سياسية بين العرب وإيران لمصلحة مصالح استراتيجية أمريكية صهيونية في أرض العرب والمسلمين. وسيلعبون بكل ورقة خلاف أو سوء تفاهم أو احتكاك بين العرب وإيران ليقحموا العرب في معاركهم العبثية مع دولة مسلمة جارة ومناهضة للمشروع الأمريكي - الصهيوني بكل قوة. فإذا كان التاريخ الأمريكي مع الآخرين، من مثل إبادتهم لشعوب الهنود الحمر، وإبادة مئات الألوف بقنابلهم الذرية وحرق الأخضر واليابس في فيتنام، وتخليهم عن كل من حالفهم عندما يكون ذلك في مصلحتهم الاستراتيجية ووقوفهم الأعمى مع الوجود الصهيوني في فلسطين، إذا كان ذلك التاريخ لا يجعل العرب حذرين، أفلا يستجمعون ذاكرتهم التاريخية القريبة، ويتجنبون وضع إصبعهم في ذات الجحر الذي لدغوا منه مرات ومرات؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"