لغز التغير التكنولوجي

01:46 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبدالعظيم محمود حنفي

يوجد الكثير من الوصفات لفهم الكيفية التي تنمو بها الاقتصادات، مثل المنتجات والخدمات، وهي عادة تتطلب عناصر ثلاثة: المواد الخام، والعمالة، والآلات وهو ما يسمى أيضاً رأس المال المادي. بيد أن هناك عنصراً رابعاً مهماً في الاقتصادات كلها وهو التغير التكنولوجي الذي يؤدي إلى منتجات وخدمات جديدة، تزداد الرغبة فيها أكثر من تلك التي كانت موجودة من قبل في السوق، كما يؤدى إلى طرق أكثر كفاءة في صنع وتوصيل جميع المنتجات والخدمات. وعادة ما تصنف وصفات النمو الاقتصادي إلى استراتيجيتين عريضتين، الاستراتيجية الأولى: تسمى القوة الغاشمة وتقوم على إضافة المزيد من المدخلات، المزيد من العمالة، والمزيد من رأس المال الذي يفضى إلى مزيد من الإنتاج، برغم أن زيادة رأس المال وحده سترفع بالفعل الإنتاج بالنسبة للعامل الواحد. ومع ذلك فإن إحدى المبادئ الأساسية لعلم الاقتصاد تبين أن إضافة أحد عوامل الإنتاج يرتبط به تناقص في العائدات - على سبيل المثال - إذا كانت توجد لدينا قوة عمل معينة، فإن إضافة مزيد من الآلات سيخرج لنا مزيداً من الإنتاج، ولكن بمعدل يتناقص باطراد. وهكذا برغم أن الاقتصاد الذي يكرس لكل من الادخار والاستثمار يؤدى إلى ارتفاع حصة الإنتاج، والى زيادة النمو لفترة من الوقت من خلال توفير المزيد من المصانع والآلات، إلا أنه لا يمكنه أن يفعل هذا على المدى الطويل، وهذا رأي من الآراء الكثيرة التي قال بها واحد من آباء نظرية النمو الحديثة البروفيسور روبرت سولو - حامل جائزة نوبل في الاقتصاد - الذي أوضح الاستراتيجية الثانية للنمو الاقتصادي وهي التقدم التكنولوجي أو النمو الذكي الذي يعمل على توليد كثير من الإضافات إلى الإنتاج مع مرور الوقت. وهو الذي يمكنه أن ينقذ الاقتصاد من تناقص العائدات، فالقيام بشكل مطرد بتجهيز قوة عمل معينة بأفضل الأجهزة والمعدات، مثل الحاسبات الآلية الشخصية بدلاً من الآلات الكاتبة يمكن أن يرفع كلاً من مستوى ومعدل الإنتاج. وفي الواقع فإن أحد الإسهامات التي قدمها «سولو» في عمله المبكر عن نظرية النمو هو أن التقدم التكنولوجي (أو زيادة عوامل الإنتاج الكلية) من أهم مصادر النمو، وتوصل آخرون إلى نتيجة مماثلة مؤداها أن التغير التكنولوجي هو أحد المحركات الرئيسية للنمو. وكانت النماذج النظرية للنمو التي قدمها «سولو» وآخرون منذ ذلك الحين عبارة عن طرق مختزلة للتعبير عن المصطلحات الرياضية للعلاقة بين المتغيرات الخاصة بمدخلات معينة- مثل العمالة، ورأس المال، والتقدم التكنولوجي- وبين النمو، وذلك في إنتاج السلع والخدمات. غير أنه حتى أفضل النماذج الرياضية لها أوجه قصورها؛ ففي النموذج الأساسي الذي وضعه سولو وتريفور سوان على سبيل المثال يعد التغير التكنولوجي عاملاً خارجياً، شيئاً حدث نتيجة مصادفة وسياسات كانت تهدف إلى الترويج له. (مثل الإنفاق الحكومي على البحث الأساسي أو الحماية القانونية لحقوق الملكية الفكرية). وعموماً فإن الدراسات الإحصائية للنمو الاقتصادي التي أجريت على مدى العقدين الماضيين تقريباً كانت تهدف إلى حد كبير إلى محاولة الكشف عن لغز التغير التكنولوجي، أو ما يسميه الكثير من الاقتصاديين بقية سولو. لماذا تتسارع وتيرة الابتكار في بعض الفترات في بعض المجتمعات. ولماذا تبطئ في أوقات أخرى وفي أماكن أخرى. إن القدرة على الإجابة عن هذين السؤالين الرئيسيين هي في الأساس القدرة على تفسير ما الذي يسرّع أو يعوق النمو الاقتصادي ذاته.
لقد تصارع عدد كبير من الاقتصاديين مع هذه الأسئلة على مدى العقود العديدة الماضية، وقد اتبع معظمهم طريقة بناء النموذج واختباره التي بدأها سولو، إلا أن قلة من الاقتصاديين الآخرين اتخذوا طريقاً مختلفاً لا يعتمد على الحسابات الرياضية تماماً، بل يؤكد أهمية المؤسسات، أي حكم القانون والقواعد غير الرسمية التي تضمن مكافأة للسلوك الاقتصادي الإنتاجي، إلا أن المؤسسات تأخذ وقتاً طويلاً في تطويرها، ولا يمكن بشكل عام نسخها أو نقلها جملة من بعض المجتمعات التي يبدو أنها تعمل بشكل جيد، وزرعها في مجتمعات أخرى تكون في حاجة ماسة إليها. والبديل لذلك هو أن تنبع المؤسسات من داخل المجتمع حتى تعمل بأكبر قدر من الفعالية. إن الاقتصاديين الذين يتجاهلون أهمية المؤسسات في النمو الاقتصادي يرتكبون الحماقة المذكورة في مثال عمود النور إذ يبحثون عن النقود المفقودة تحت عمود النور، لأن ذلك هو المكان الذي يوجد فيه نور، ولكنه ليس بالضرورة هو المكان الذي فقدت فيه النقود.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"