لهذه الأسباب لن تحصل كاتالونيا على الاستقلال

04:22 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

يمتد تاريخ كاتالونيا إلى العصور الوسطى قبل أن تغدو في القرن الخامس عشر جزءاً من إسبانيا والتي ستضحي جمهورية مستقلة في العام ١٩٣١ فتمنح الإقليم حكماً ذاتياً واسعاً خلال الحرب الأهلية الإسبانية. وكان سقوط برشلونة في يد الجنرال فرانكو في العام ١٩٣٩ بداية لنهاية المقاومة الإسبانية. وتحت حكمه الدكتاتوري ألغي الحكم الذاتي وتعرضت القومية الكاتالونية لأشد أنواع القمع. لكن مع وفاة فرانكو وسقوط الديكتاتورية في العام ١٩٧٧ استحوذ الإقليم على حكم ذاتي واسع النطاق.
وساهمت أزمات الاقتصاد الإسباني في العقد المنصرم في تأجيج النزعة الانفصالية والتي ترجمتها الحكومة الكاتالونية بإجراء استفتاء، في العام ٢٠١٤، جاءت نتيجته ٨٠٪ لمصلحة الانفصال، لم تعترف به حكومة مدريد.
الشعور بالتميز القومي يلعب دوراً في النزعة الاستقلالية، وهو ما نلحظه من التنافس الشديد بين فريقي برشلونة وريال مدريد، لكن الاقتصاد يلعب دوراً فاعلاً هو الآخر. فما عدا التاريخ والجغرافيا (مساحة الإقليم ٣٣ ألف كلم٢ أي ٨٪ من إجمالي مساحة إسبانيا) والديمغرافيا (سكانه ٧, ٥ مليون نسمة أي ١٤٪ من إجمالي عدد السكان) فالناتج الإجمالي الداخلي يمثل ٢٠٪ من الناتج الإسباني ويتخطى نظيره البرتغالي، وكاتالونيا هو الإقليم الأغنى في إسبانيا، نسبة البطالة فيه ١٣.٢٪ أي أقل بكثير من المعدل الوطني العام (١٧. ٢٪) وله منفذ واسع على البحر وحدود مع فرنسا، وهو يؤمن ٢٥٪ من الصادرات الإسبانية بفضل قطاعاته المزدهرة مثل المصارف والصناعات الغذائية والكيميائية والتكنولوجية، وفيه شركات كبرى ويؤمه ١٨ مليون سائح سنوياً.
هذه الدينامية الاقتصادية هي حجة الانفصاليين الذين يتذمرون من أن إسبانيا «تسرقهم» لأن الفرق بين ما يدفعون لها وما يتلقون منها يزيد على ١٦ مليار يورو (مدريد تقول عشرة مليار).
وهكذا يؤمن الكاتالونيون بأنهم يمتلكون كل عناصر الدولة القادرة على الحياة، والقانون الدولي يعطيهم الحق في تقرير مصيرهم. وعلى هذا الأساس أقر برلمانهم قانوناً يسمح بالاستفتاء والذي على أساس نتيجته يعلن الاستقلال في «جمهورية كاتالونيا»، كما وعد الرئيس كارليس بيغديمونت. وقد جاءت نتيجة الاستفتاء في بداية الشهر الجاري بأكثر من تسعين في المئة لمصلحة الانفصال، كما كان متوقعاً. وفي العاشر منه أعلن بيغديمونت أمام البرلمان عن استقلال الإقليم، لكن ناطقاً باسمه سارع إلى القول بأنه مجرد إعلان «رمزي» في انتظار التفاوض مع الحكومة المركزية وهو تفاوض لا مهرب منه إذ إن مثل هذا الاستقلال لا يمكن حصوله من دون موافقتها ومباركة دول كبرى ومجلس الأمن، كما تدل كل الحالات المشابهة في العالم، من تشيكلوسلوفاكيا إلى جنوبي السودان مروراً بيوغسلافيا وغيرها.
حكومة مدريد حاولت قمع الاستفتاء بالقوة عبر حملة اعتقالات وإقفال لصناديق اقتراع واستدعاء قائد الشرطة المحلية بتهمة التقصير. وحجتها أن الاستفتاء غير قانوني بموجب الدستور الإسباني الذي تؤكد مادته الثانية على «وحدة الأمة الإسبانية» كما تسمح المادة ١٥٥ لمدريد بالسيطرة على الإقليم. وقد عقد رئيس الحكومة ماريانو راخوي اتفاقاً مع زعيم الحزب الاشتراكي المعارض بيدرو سانشيز للتعاون في وجه المد الانفصالي، وتلقيا دعم الملك فيليب السادس بتصريح علني ضد الانفصاليين.ورداً على مطالب رئيس الإقليم بيغديمونت بالوساطة والتفاوض رد راخوي بأن «لا وساطة ممكنة بين القانون الديمقراطي والعصيان واللاشرعية»، مكرراً التهديد باللجوء إلى المادة ١٥٥.
أما بالنسبة لذريعة حق الشعوب في تقرير مصيرها فقد رد أساتذة في القانون الدولي على الانفصاليين عبر عريضة نشرتها صحيفة «البايس» في ٢٦ سبتمبر/ أيلول الماضي بالقول إن هذا الحق لا يطبق إلا على الأراضي المستعمرة أو المحتلة، وإن إسبانيا دولة سيدة مستقلة وإقليم كاتالونيا جزء لا يتجزأ منها ولا يسكنه شعب مضطهد أو محتل أو مستعمر.
تلقت مدريد دعماً من دول كثيرة منها الصين ولكن الأهم من الاتحاد الأوروبي الذي لم يتقدم بوساطة كما يتمنى بيغديمونت بل اعتبر المسألة شأناً داخلياً. وعقد البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ جلسة أكدت فيها كتلته الأساسية، وهي من كل المشارب والاتجاهات، على دعم مدريد ضد الفعل الانفصالي.
الأوروبيون يخشون من تداعي أحجار الدومينو، إذ إن عدة مناطق في أوروبا تحمل مطالب انفصالية.
لا يستطيع الاتحاد الأوروبي دعم كاتالونيا، كما أن هذه الأخيرة لا تستطيع الاستقلال من دون دعمه الفعلي.. لكن بموجب المادة ٤٩ من معاهدة الاتحاد الاوروبي فإن أمام انضمام أعضاء جدد إليه مساراً طويلاً ومعقداً ويجب أن يحظى بموافقة كل دوله.وهذا مستحيل لأن إسبانيا ستعارض كما كل الدول التي تشكو من الحركات الإنفصالية.
على صعيد آخر هددت شركات ومصانع كبرى بالانتقال إلى خارج كاتالونيا إذا ما استقلت.
لهذه الأسباب لن تنجح كاتالونيا في الولوج إلى الاستقلال لكن الاستفتاء فتح مرحلة في العلاقة مع الحكومة المركزية لن تكون في مصلحة الاستقرار السياسي والاجتماعي الإسباني.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"