ليبيا . . كأن شيئاً لم يتغير

03:14 صباحا
قراءة 4 دقائق
تشهد ليبيا منذ أسابيع حركة نزوح لمواطنيها نحو تونس، مع هجرة للعمالة الوافدة وعلى الأخص المصرية . واشنطن أغلقت سفارتها، وكذلك فرنسا، ومن قبل الجزائر، وليس معلوماً على وجه الدقة من بقي من الهيئات الدبلوماسية في هذا البلد، ومن حافظ على مستوى تمثيله فيه .
المطار الرئيسي في العاصمة طرابلس يتم استهدافه بنيران مسلحين، وقد تم في هذا السياق تدمير عدد من الطائرات الليبية الرابضة على مدرج المطار التي تبلغ أثمانها مليارات الدولارات . حقول النفط والغاز أصبحت أيضاً في مرمى النيران، ما يهدد توليد الطاقة الكهربائية والاستخدامات المدنية للنفط . ومن يسعه متابعة الأخبار عن هذا البلد، بوسعه الاستنتاج أن ما يجري ليس سعياً للاستيلاء على السلطة بل هو أسوأ من ذلك: الاستيلاء على مصادر الحياة وتبديد الثروات الطبيعية، وحرمان الليبيين منها، وإعادتهم قروناً إلى الوراء .
سبق للعقيد معمر القذافي أن أصدر كتاباً قصصياً بعنوان طويل مطلعه "القرية . . القرية"، وفيه يتغنى بالقرى، ويهجو المدن والحياة فيها، ويدعو للعودة إلى الريف . من غير أن تكون هذه نظرة رومانسية، إذ إن مدار رؤيته كان يدور حول كراهيته للمدينة وللمدنية، رغم أنه شخصياً كان يتنعم هو وعائلته بمباهج المدنية وثمراتها .
التطورات المريعة التي تشهدها ليبيا، والتي يتجرع مرارتها الليبيون منذ أسابيع، تهدد بحرمانهم من الخدمات الأساسية التي تتميز بها المدن من كهرباء وماء وأسواق ودواء وملبس . والمسلحون الأشاوس لا يقولون ما الذي يريدونه، وأي مستقبل يرسمونه لبلدهم وشعبهم، فهم يكتفون بالاستخدام العشوائي للسلاح، ما دامت الأسلحة والذخيرة متوافرة بين أيديهم بكثرة .
القذافي نفسه حافظ على ما يسمى بمجلس قيادة الثورة لنحو ثلاثة عقود، واضعاً نفسه على رأس هذا المجلس بصورة دائمة، ودعواه في استمرار تلك الهيئة أن الثورة مستمرة، ولو أنها نجحت وأطيح العهد السابق منذ ثلاثين عاماً . كان المقصود هو الحؤول دون الانتقال إلى شرعية دستورية، ودولة مؤسسات، والفصل بين السلطات وتأبيد الحكم الفردي .
ومنذ نحو ثلاثة أعوام فإن الثوار في ليبيا يرفضون تسليم أسلحتهم والمساهمة في بناء جيش وطني مهني قوي، ويعزون ذلك إلى أن "الثورة مستمرة"، ولعلهم يريدون لها أن تتواصل لثلاثة عقود أخرى على الأقل، فالقذافي ليس أكثر ثورية منهم . والبادي أن ما "أنجزه" ذلك الرجل على مدى أربعة عقود في استنزاف ثروات البلد، ومنع تطورها وحرمان الليبيين من الخدمات والاحتياجات الأساسية في بلدهم الذي ينعم بثروة النفط، وتقويض الحياة الطبيعية الآمنة للناس، أصبح مثالاً للبعض، حيث إن أفرقاء الثورة ينهجون النهج نفسه، فالثورة عندهم تقترن بإلحاق الشلل بالحياة العامة ووقف عجلة الاقتصاد وتهديد الناس في أمنهم وأرزاقهم، والإمعان في الانعزال عن العالم الخارجي، وإحلال سطوة السلاح محل القانون، وليس لأحد في هذه الظروف أن يعترض على ما يجري وتحت طائلة تصنيفه بالخروج على الثورة .
والأغرب من ذلك هذا العداء لفكرة الدولة، والإيحاء بأن لا حاجة لها، وأن من الضروري الاستغناء عنها بحجة أن كثيراً من الشعوب لم تنعم في محطات سابقة من التاريخ بوجود دولة، ومع ذلك فإن تلك الشعوب عاشت حياتها ولم تمت . وهو ما عاشه الليبيون على كل حال في ظل "قائد الثورة" طوال أربعين سنة عجاف . فالحديث الخرافي والدائم عن ثورة دائمة كان يراد به منع الاحتكام إلى معايير تطور البلدان والمجتمعات، أو حتى متابعة ما يجري في العالم والأخذ بالمفيد منه (وهو كثير جداً)، وبحجة أن لا بلد يعيش وضعاً ثورياً كحال ليبيا القذافي، وبالتالي فإن ما يصحّ على غيرنا لا ينطبق علينا .
ما يحدث في ليبيا في هذه الغضون هو استمرار للإرث البائس الذي تركه القذافي، مع تغيير في الوجوه وفي بعض الشعارات . لكن الأداء متشابه ويكاد يتطابق . والمنهج هو ذاته، وهو ما حمل مسؤولين ليبيين على الدعوة إلى استقدام قوات دولية لضمان أن تسير الحياة في حدها الأدنى الطبيعي، ومن أجل وقف فوضى السلاح والاستعراضات العسكرية واستهداف مصادر الحياة، وجعل الحياة بلا أفق . ليس استقدام قوات خارجية بالحل السحري، فقد يفاقم وجودها من المشكلات بدلاً من أن يحلها، وسوف يسهل الحديث عندها عن تدخل أجنبي استعماري . ولم تبد أية دولة على كل حال وحتى تاريخه حماسة للاستجابة إلى هذا المطلب، الذي تقف دون تحقيقه عوائق كثيرة . غير أن الأنظار تتجه إلى دول الجوار العربية، فبأيدي هذه الدول أن تنهض بدور سياسي تخاطب فيه الأفرقاء بالكف عن اللجوء إلى السلاح والشروع في حل الميليشيات وبناء جيش وطني، وتشكيل حكومة ذات مصداقية وذات ولاية فعلية .
لو كان للاتحاد المغاربي وجود لأدى دوراً في وقف التدهور ولرعى مؤتمراً ليبياً جامعاً، ولخرج بضمانات تكفل لليبيين أن ينعموا بحياة آمنة . ومع غياب هذا الاتحاد ووجود بعض هياكله الخاوية، فالأنظار تتجه إلى تونس ومصر والجزائر، فمن مصلحة هذه الدول وضع حد للتدهور الأمني المريع، منعاً للتداعيات عبر الحدود الليبية المشتركة مع الدول الثلاث ومن أجل تنظيم حركة التنقل وانسياب السلع في ظروف طبيعية . إن العلاقات التاريخية القديمة مع ليبيا تسمح لهذه الدول بأن تلتقي وتصوغ رؤية مشتركة، بالتوافق مع أطراف الثورة الأساسيين الذين صنعوا التغيير، ومع من اختارهم الشعب لتمثيله . عدا ذلك فإنه ليس بوسع الجامعة العربية ولا الاتحاد الإفريقي أو المؤتمر الإسلامي أو حركة عدم الانحياز أو حتى الأمم المتحدة، أن تفعل الكثير في مواجهة موجة التدمير الذاتي التي تعصف ببلد عمر المختار .


محمود الريماوي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"