ماذا أنتجت العولمة ؟

02:11 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة

فوائد العولمة أصبحت معروفة إذ أدخلت إلى المجتمع الاقتصادي العالمي ملايين المنتجين كما المستهلكين الجدد ورفعت كمية ونوعية السلع والخدمات إلى مستويات لم يشهدها العالم من قبل. نتج عن هذه الثورة تطوير مدني لا سابق له، كما انحدار غير مسبوق في جودة البيئة أو بطريقة أخرى ارتفاع خطر في مستوى التلوث يضر بالإنسان.

هنالك واقع وهو انتقال التلوث أكثر فأكثر إلى دول الجنوب أو إلى الدول النامية والناشئة بسبب تحول الإنتاج إليها بسبب التكلفة والحقوق كما الواجبات. لم يأت التطور الصيني مثلاً من الداخل فقط بل من الاستثمارات الغربية المباشرة في كل القطاعات. في الاجتماع خلقت العولمة صراعاً بين رأس المال والعمال لم تعالجه الحكومات بل تركته يتفاقم، كما وضعت العولمة مؤسسات قطاع الأعمال كما العمال أنفسهم في منافسة خطرة وكبيرة فيما بينهم.
وضعت هذه المنافسة تحت شعار الفعالية وتخفيض التكلفة، بل عملياً تحت شعار التنافسية التي ميزت النشاط الاقتصادي الدولي وجعلت طرفي الإنتاج يعيشان على أعصابهما في سبيل حسن الأداء والفوز المادي في السوق. نتج عن العولمة اتساع الشرخ المالي والمعيشي بين الميسورين والفقراء، كما بين «بيكيتي» في كتابه المعروف عن رأس المال في القرن ال 21. في هذا الإطار يقول الاقتصادي من البيرو «هرناندو دي سوتو» أن المشكلة الاقتصادية العالمية لا تعود إلى وجود رأس المال، وإنما إلى غيابه عن معظم الدول النامية والناشئة.غيابه بالمعنى القانوني أو إثبات وجوده بشكل دقيق وحمايته يعتبر عائقا أمام النمو، بل يمنع عمليا زيادة الاستثمارات.
يقول «دي سوتو» أيضاً إنه ليس هنالك عداء بين العمل ورأس المال، بل تعاون عملي وتكامل في سبيل تحسين الأوضاع العامة. هنالك انقسام كبير فيما يخص نتائج العولمة. الصراع لن يحسمه الجدال النظري بل الاحصائيات التفصيلية الدقيقة في كل دول العالم. إذا كانت الأرقام موجودة بالنسبة للدول الصناعية، فهي غائبة عن معظم الدول النامية والناشئة لذا يستمر الصراع الفكري.
هنالك من يقول إن العولمة تسمح للأغنياء والشركات الكبرى بالسيطرة على الاقتصاد، وآخرون يقولون إن العولمة تسمح للشركات الصغيرة كما للفقراء بالنهوض بفضل توسع الفرص وتواصلها عالمياً. لا شك أن العولمة باقية في منافعها ومساوئها، والمطلوب تحفيز المنافع وتخفيف المساوئ عبر تحديث القواعد وتدخل القطاع العام لمنع الجشع والاحتكار اللذين سببا الأزمات المالية في كل العصور. العولمة لا تعني فقط الجشع، بل تعني أيضاً احترام الإنسان وحقوقه كما تحسن أوضاعه المعيشية والاجتماعية. العولمة تكون في كل شيء أو لا تكون، أي في الاستثمارات والتجارة والثقافة والتربية والتعليم وهذا ما يحصل اليوم. عجزت منظمة التجارة العالمية حتى اليوم عن تحقيق اتفاقية عالمية لتخفيف الحواجز أمام انتقال السلع والخدمات. عجزت عن إنهاء «جولة الدوحة» من المفاوضات التجارية التي بدأت رسمياً في سنة 2001 ولم تنته بعد. نتج عن هذا العجز أو ربما التقصير انتشار الاتفاقيات الثنائية أو الإقليمية التي تخلق مجموعات تجارية جغرافية مختلفة كلياً عن المجموعات المعولمة.

فالولايات المتحدة مثلاً تسعى اليوم إلى التوقيع على اتفاقيتين تجاريتين كبيرتين واحدة مع أوروبا والثانية مع آسيا مما ينقض مبدأ العولمة التي دعمته منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. هنالك أكثر من 400 اتفاقية تجارية بين دول معينة أو بين مجموعات محددة مما يجعل الوصول إلى اتفاقية دولية صعباً إن لم يكن مستحيلاً.

فأوروبا مع الأزمة اليونانية وأوضاعها عموماً تعاني انخفاضاً في الحركة الاقتصادية يقلق مجموعة اليورو.

أما الولايات المتحدة فمنشغلة بأمور عدة أهمها الإنتاج الصخري النفطي الذي يبقي سعر برميل النفط في حدود 60 دولاراً ويعزز القدرة الإنتاجية للصناعة. أمريكا منشغلة أيضاً بأسواقها المالية وبورصاتها، والخوف من حصول سقوط جديد بعد ارتفاع متواصل تحقق في السنوات القليلة الماضية. هنالك خوف من حصول أزمة مالية جديدة مشابهة للركود الكبير.
في إفريقيا هنالك 3 مجموعات تجارية كبيرة تمثل 26 دولة اتحدت لخلق منطقة حرة فيما بينها للاستفادة من منافع التجارة. النمو السكاني الإفريقي يشغل بال المسؤولين حيث إن 80% من الزيادة السكانية العالمية حتى سنة 2100 أو 4 مليارات شخص ستحصل في القارة السوداء. حصلت استثمارات مباشرة في إفريقيا قدرها 800 مليار دولار في سنة 2014 منها 28 ملياراً من الصين أهمها في قطاع الطاقة.
هنالك منطقة واحدة في العالم متأخرة فيما يخص التجارة والنمو وهي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي لا يكفيها سوء التنوع الاقتصادي وضعف المؤسسات وزيادة الفساد وتردي البنية التحتية، بل هي غارقة اليوم في حروب تأكل ما تبقى من الخيرات والمعالم السياحية والعلمية وتعيدنا عقودا وربما قرونا إلى الوراء. هنالك وقائع مهمة بالنسبة للاقتصاد العالمي نوجزها كما يلي:
أولاً: منذ سنة 1950 وحتى 2008، ارتفع حجم التجارة الدولية 32 مرة مقابل 8 مرات فقط للناتج العالمي مما أوصل نسبة التجارة من الناتج إلى 30%. لم يحصل هذا من لا شيء، وإنما من اتفاقيات «الجات» الثماني التي حررت التجارة العالمية خاصة أمام الصناعة. منذ سنة 2008، يرتفع الناتج العالمي 5,2% سنوياً مقابل زيادة التجارة الدولية سنوياً 4,6% فقط، وذلك بسبب الأزمة العالمية المستمرة خاصة في أوروبا. هنالك انخفاض واضح في نمو حركة التجارة العالمية لا يغيب الإرهاب ولا تغيب السياسة عنها.
ثانياً: هنالك تغيير كبير في مراكز القوى ومدى قوتها مما يشير إلى تحول اقتصادي عالمي غير مسبوق. حصة مجموع الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية واليابان وكندا من التجارة العالمية انخفضت من 70% في سنة 1994 إلى 50% في سنة 2013 مما يشير إلى انتعاش مناطق أخرى خاصة في آسيا. انخفاض النسب لا يعني انخفاض الأرقام بل العكس صحيح إذ استفاد الجميع من التجارة.
ثالثاً: مجموع الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة الدول السبع الكبرى تعادل 32% من المجموع العالمي، مقابل 34% لمجموع الناتج ل 7 دول هي الصين والبرازيل والهند وإندونيسيا والمكسيك وكوريا الجنوبية وتركيا مما يعني أن قوى النفوذ السياسي الاقتصادي تتغير جغرافيا مع الوقت. نفوذ مجموعة ال G7 خف كثيراً في الاقتصاد الدولي، لذا أنشئت مجموعة العشرين منذ سنوات قليلة لمعالجة الموضوع.
رابعاً: تنحصر التجارة الدولية في شركات قليلة تقوم بها وتستفيد منها إلى أقصى الحدود. 80% من الشركات الأمريكية المصدرة لا تصدر أكثر من 1% من المجموع. 10% من الشركات الأوروبية المصدرة تصدر 85% من المجموع. 5% من الشركات في الدول النامية والناشئة تصدر 81% من المجموع.
أرقام الصادرات العامة لا تعبر في الحقيقة عن حجم مشكلة توزعها، أي تستفيد من العولمة عالمياً شركات قليلة جداً تتمتع بالنفوذ وتستفيد من اتفاقيات وسياسات تصب في مصلحتها بل هي وراءها. فالعلاقة العضوية بين المال والسلطة ما زالت قوية جداً قبل العولمة وفيها.
خامساً: دور المجتمع المدني ما زال خجولاً في كل الدول حتى المتقدمة. هنالك تداخل مادي مقلق بين الشركات والمجتمع يحد من نشاط الأخير وفعاليته. يكمن دور المجتمع المدني في المطالبة بالإصلاحات التي تدخل الفقراء أكثر إلى العولمة فتجعلها أكثر إنسانية وتواضعاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"