كانت أزمة 2008 كبيرة وعميقة ووصفها الاقتصاديون ب«الركود الكبير»، إذ ضربت معظم الاقتصادات الكبيرة بدءاً من الولايات المتحدة إلى قبرص. حتى الدول الناشئة التي لم تصب بشظاياها، تأثرت بها من نواحي العلاقات التجارية والمالية والاستثمارات. أزمة 2008 هي أزمة أخلاق وثقة قبل أن تكون أزمة مالية نقدية واقتصادية. هل تعلم العالم منها لتجنب حصول كوارث مستقبلية كبيرة؟ هل تعلم الاقتصاديون منها لوضع سياسات تفي بالغرض أي تجنب العالم مغامرات جديدة ترفع من مستوى البطالة وتقتل النمو وتكبر الفجوات بين الفقراء والأغنياء. من أسباب نجاح الولايات المتحدة الاقتصادي عبر العصور وحتى منذ أزمة 2008، أنها تعترف بأخطائها وتتعلم منها وتتمتع بالمرونة الكافية للتغيير دون عقد. ما زالت أميركا قائدة الإبداع والتجدد والابتكار في العالم، لذا تعافت من الأزمة بينما تبقى أوروبا تعانيها ليس فقط في اليونان وإنما أيضاً في ايطاليا وفرنسا وغيرها.
يحدد «هنري كيسينجر» في كتابه «النظام العالمي» الأطر التي يجب أن تتوافر عالمياً لتحقيق الاستقرار وهي مجموعة قواعد منطقية تنظم العلاقات بين الدول وتحدد ما هو مقبول وما هو مرفوض وتمنع عمليا سيطرة فريق أو دولة على العالم أجمع. يتابع كيسينجر أنه من الغباء بمكان إلغاء أنظمة تعاون قبل الاتفاق على أخرى فاعلة ومنطقية وذلك منعاً للفوضى. يشدد كيسينجر على أن إدارة العلاقات بين الدول الكبيرة هي في غاية الأهمية لتثبيت السلم العالمي تماماً كما حدث مع إيران في شأن النووي. كان من المستحيل الوصول إلى اتفاق لو كانت العلاقات فيما بين أعضاء مجموعة «5+1» سيئة. كان سيكون الوصول إلى حل أصعب، ليس فقط بالنسبة للمجتمع الدولي وإنما لايران أيضاً. من ناحية أخرى، يقول «مارك كارني» حاكم المصرف المركزي البريطاني «إن الثقة تأتي على الأقدام لكنها تغادر كالبرق». بناء الثقة يتطلب الوقت الكثير والجهد المضني، لكن خسارتها تتم بسرعة خاصة في المواضيع المصرفية والمالية وبالتالي إعادة بنائها تصبح مهمة معقدة أو ربما مستحيلة. تقول مؤسسة الخدمات المالية البريطانية إن هنالك 5 أسباب للأزمة نلخصها كما يلي:
أولاً: خلل كبير في الحسابات الدولية والمقصود هنا حسابات الموازنة والعلاقات الخارجية. الخلل الأكبر السلبي هو في الولايات المتحدة والخلل الايجابي الكبير هو في حسابات ألمانيا والصين. طبعاً من غير الممكن أن تكون حسابات كل الدول متوازنة، بل المقبول أو حتى المطلوب أن يكون الفائض أو العجز محدودا، أي لا يؤثر في سلامة الاقتصاد الدولي. في الحقيقة سوء التوازن الاقتصادي والدولي كان أحد أهم مصادر الأزمة.
ثانياً: قيام المصارف التجارية بمعاملات تبادل الأدوات المعقدة ذات المخاطر المرتفعة التي ليست أصلاً من طبيعة أعمالها. كما أن الاقراض لم يكن مدروساً بل متهوراً في العديد من الأحيان. تم الرهان على أن الازدهار الذي تحقق على مدى سنوات قبل الأزمة سيستمر مستقبلاً، وهذا ما لم يحصل. لذا يمكن القول إن المصارف لم تحسن إدارة مخاطرها المالية، ما سبب حدوث تضخم اصطناعي في الحسابات وبالتالي تدهور كبير وسريع في أوضاعها العامة.
ثالثاً: ارتفعت الديون الخاصة إلى ما يفوق القدرة على التسديد. تقع المسؤولية حكماً على المقرض والمقترض الذين تجاهلوا الواقع بل غامروا في الاتكال على الحسابات الخاطئة. لم تكن المؤونات كافية ما سرع الانحدار.
رابعاً: كانت المخاطر كبيرة والضمانات غير مناسبة، وبالتالي خاف الجميع من الحادثة الأولى وبالتالي تحققت حلقة السقوط السريع الذي دفع ثمنه الجميع. لم يحدث السقوط فقط لأسباب اقتصادية ومالية وانما لأسباب نفسية أي الخوف، وهذا ما قرب أكثر علم الاقتصاد بالنفس.
خامساً: مهما كانت القواعد دقيقة ومدروسة، يبقى الأهم كيف يتصرف عملاء السوق معها ومن ضمنها. الرغبة في التحايل أو تخطي المنطق أو المغامرة إذا وجدت تستطيع تخطي أذكى وأدق القواعد الموضوعة.
يرتكز النظام الاقتصادي الرأسمالي على مبادئ أربعة لا يمكن النجاح من دونها. احترام الملكية الخاصة من عقارية وفكرية ومالية وغيرها. ثانياً، احترام العقود ووجود سلطات عامة مستقلة تفرض تنفيذها عند وقوع خلافات أو خلل أو سوء نية أو غيرها. هنالك ضرورة لوجود أسواق حرة بحيث تكون الأسعار معبرة عن العلاقة بين العرض والطلب. الأسعار المدعومة أو المحددة بقرارات حكومية تضر بالسوق وتحدث خللا في الأسواق وبالتالي تعرض الأسواق للسقوط. رابعاً لا بد من وجود سلطات عامة تطبق سياسات مدروسة تدعم نشاط القطاع الخاص، بل تؤمن له الأطر الضرورية كي يعمل بواقعية.
الجميع يعترف بأن أزمة «الركود الكبير» كانت قاسية وسببت العديد من المشاكل لجميع الدول. هل تعلمنا منها؟ ما هي الدروس المقتبسة منعا للتكرار أو أقله تخفيفاً للخسائر إذا ما تكررت التجربة السيئة؟ هنالك توافق بين الاقتصاديين العالميين على الدروس التالية:
أولاً: تغيير التركيز في العلوم الاقتصادية من الإصرار على التوازنات إلى معالجة الخلل الذي يشكل طبيعة العالم الحالي. يرتكز علم الاقتصاد اليوم على تحقيق التوازنات وعلى الرجوع إليها عند تركها، وهذا جيد، إلا أنه لا يحصل دائماً. من الضروري التركيز في العلوم الاقتصادية الحديثة على معالجة الخلل لأن التوازن هو جيد، لكنه صدفة ومؤقت في أفضل الحالات.
ثانياً: سياسات تخفيف الاستدانة السريع والمترافق مع سياسات التقشف المالية تعمق المشكلات ولا تضع لها حلولاً. فرض سياسات التقشف من قبل صندوق النقد والمجموعة الأوروبية على العديد من الدول المتأزمة وليس اليونان فقط عمق الأزمة اليونانية وأحدث تغييراً كبيراً في العلاقات. اعتماد هذه السياسات لم يعمق الأزمة فقط بل جعل النهوض منها أصعب وأكثر كلفة.
ثالثاً: على سلطات الرقابة القيام بأعمالها وليس التفرج. هنالك واقع مزعج، وهو أن أجهزة الرقابة لم تكن سريعة وجدية وقاسية خاصة قبل تفاقم الأزمة أي في 2006 وما بعد. تجنب الأزمات هو واجبها، ولا تقع المسؤولية عليها وحدها بل على السياسيين الذي تركوها.
رابعاً: اعتماد مبادئ الثواب والعقاب خاصة من قبل الإدارات الخاصة والعامة. تم غض النظر عن العديد من الشوائب منها بعض التزوير والاختلاسات. تمت معاقبة بعض الأشخاص، وليس جميعهم، وكأنها فشة خلق أو كبش محرقة أو كان هنالك ضرورة لمعاقبة بعض المسؤولين المرتكبين. تعلمنا أن للتزوير والسرقة نتائج اقتصادية سلبية ضربت الثقة بالاقتصاد العالمي.
خامساً: السماح بانتشار الأدوات المالية والنقدية المعقدة والخطرة أسهم في ضرب المنافسة وزيادة المخاطر العامة. ليس باستطاعة كل المؤسسات والمصارف تركيب هذه الأدوات، وبالتالي حدث الخلل المالي لمصلحة مؤسسات معينة أتقنت التبادل في هذه الأدوات. اكتشف العالم هذه الأدوات بعد حصول الكوارث وتفاجأ بها.
سادساً: نظام المنافع والربح في المصارف والشركات الذي شجع المسؤولين على المخاطرة، خاصة أن الخسائر تحدث بعد أن يكون المسؤول غادر أو انتقل إلى مكان آخر أو تقاعد. كما أن أنظمة الإفلاسات أي الفصل السابع أو الحادي عشر أو غيرهما في الدول الأساسية تحمي المتهورين ولا تعاقبهم ولا تميز بينهم وبين أخطائهم، بل تعطيهم الوقت الكافي للإصلاح أي عملياً تشجعهم على المخاطرة المسبقة المتهورة وغير المدروسة.
يحدد «هنري كيسينجر» في كتابه «النظام العالمي» الأطر التي يجب أن تتوافر عالمياً لتحقيق الاستقرار