ماكرون.. هل بدأ انقشاع الوهم؟

03:33 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

ليس جديداً ولا مفاجئاً أن تنخفض شعبية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ولم يمض عليه في السلطة سوى أشهر معدودة. كل الرؤساء الذين سبقوه عانوا الظاهرة نفسها، لكن المفاجئ هو أن التراجع الذي أصاب شعبيته بعد مئة يوم على اعتلائه السلطة فاق الانخفاض الكبير في شعبية سلفيه نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند عقب نيف وثلاثة أشهر من توليهما السلطة. ففي استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «إيفوب» ونشرته صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» (جريدة الأحد) الفرنسية في نهاية أغسطس الماضي، وصل عدم الرضا الشعبي عن ماكرون إلى ٥٧٪ وهو رقم أسوأ بواقع ١٤ نقطة مئوية من الاستطلاع الذي جرى في شهر يوليو/تموز الماضي. وقد تراجعت نسبة التأييد الشعبي له إلى أربعين في المئة،وهو رقم دفع بالمتحدث باسم الحكومة الفرنسية إلى القول إن حزب «الجمهورية إلى الأمام» يمر بمرحلة حرجة وإن «إغضاب البعض هو ثمن جدير بأن تدفعه الحكومة إذا ما كانت ترغب بالمضي قدماً في إجراء الإصلاحات».
مثل هذا التبرير ليس بجديد، فقد اعتاد عليه السياسيون والذين طالما كرّروا بأنهم لا يحكمون على إيقاع استطلاعات الرأي وأن القرارات الإصلاحية الصعبة تخيف البعض وأنه لا يمكن الحكم على السياسات من خلال شعبيتها أو عدمه وأن مثل هذه القرارات لا تؤتي أكلها في المدى المنظور، بل يجب إعطاء الوقت الكافي للحكومة قبل الحكم على نجاح أو فشل سياساتها الخ... ولفرانسوا ميتران جملة شهيرة في هذا الصدد: «ينبغي إعطاء الوقت للوقت».
حالة ماكرون فريدة إلى حد ما، إذ إن الشاب المتحمس الطموح اخترق صفوف الطبقة السياسية التقليدية، ليحقق صعوداً سريعاً أوصله مباشرة إلى قصر الإليزيه من دون المرور بتجارب انتخابية على رأس حزب حديث أنشأه قبل عام واحد من الانتخابات الرئاسية. والحقيقة التي يجمع عليها المحللون أن اليأس الذي وصل إليه الشعب الفرنسي حيال طبقة سياسية فقدت ثقته منذ وقت طويل، هو الذي عبّد الطريق أمام ذلك الذي جاء ليدّعي أنه آت ليعيد تشكيل المشهد السياسي خارج الانقسام القائم ما بين يمين ويسار.
بمناسبة المئة يوم على اعتلاء رئيس الجمهورية السلطة، يقوم المحللون والصحفيون بتقييم أدائه وتحليل توجهاته وما إذا كانت تتوافق مع وعوده الانتخابية، كما تنشط معاهد استطلاع الرأي لقياس مدى رضا الناس عنه. وقد أضحى ذلك تقليداً في الديمقراطيات الغربية، وغيرها. وبما أن أحداً لا يستطيع تغيير أي واقع كان في أشهر ثلاثة، ولو كان يملك عصا سحرية، فإن ما يؤثر على تقلبات بارومتر قياس الشعبية هو المهارة الإعلامية والاتصالية للرئيس وأركان حكومته أكثر من الإنجازات التي تحققت أو لم تتحقق. في هذا المجال اتسم أداء الفريق الحاكم في أشهره الأربعة الأولى المنصرمة بالإبهام والتشويش لدرجة أنه وصف بأسلوب «الهواة». لذلك قرّر ماكرون تغيير استراتيجيته الاتصالية عبر إجراء مقابلتين صحفيتين على الأقل في الشهر، كما أوعز إلى وزرائه بالظهور الإعلامي المتكرر لشرح السياسات الحكومية والدفاع عنها.
إن شرح وتوضيح الإصلاحات المزمعة وإقناع الفرنسيين بصوابيتها وجدواها على الرغم مما تنطوي عليه من صعوبات، يبقى أقل تكلفة من التراجع عنها أمام الضغوط، لأن ذلك يعني نهاية مبكرة لعهد ماكرون، رغم أن الاستمرار فيها يعني إعطاء المعارضة الفرصة للتجمع والاتحاد ضده.
من حسن حظ ماكرون أن المعارضة مشرذمة وضعيفة، لاسيما اليمين التقليدي الذي يجاهد من أجل لملمة صفوفه، والحزب الاشتراكي الذي عرض مركز قيادته في شارع سولفارينو بباريس للبيع. وقد نظّم الاتحاد العمالي العام تظاهرة في ١٢ سبتمبر/أيلول في باريس ضد الإصلاحات المتعلقة بقانون العمل، كما فعل زعيم اليسار الراديكالي جان-لوك ميلانشون في مرسيليا في ٢٥ من الشهر نفسه، وعدم توحيد التظاهرتين في واحدة دليل إضافي على تشرذم المعارضة.
لقد جاءت نتائج الانتخابات النصفية لمجلس الشيوخ الفرنسي ( ١٧١ مقعداً من أصل ٣٤٨) في ٢٤ سبتمبر/أيلول كإنذار، هو الأول من نوعه، للرئيس ماكرون الذي لم يتمكن من تحقيق أي خرق في هذا المجلس الذي احتفظ فيه «الجمهوريون» اليمينيون بالأغلبية، بل وعززوها بالمزيد من المقاعد. هذه الهزيمة الماكرونية التي قالت عنها بيريزا خياري القيادية في «الجمهورية إلى الأمام» إنها «اليقظة الأخيرة للعالم القديم» قد تكون بداية لانقشاع الوهم الماكروني على الرغم من مفارقة ترافق هذه الهزيمة الانتخابية مع تقدم ولو طفيف في شعبية الرئيس وحكومته في استطلاعات نهاية سبتمبر.
سيطرة اليمين على مجلس الشيوخ لن تمنع ماكرون من الحكم، فهذا المجلس وإن كان قادراً على إعاقة اعتماد مشاريع قوانين تقدمها الحكومة، إلا أن الكلمة الفصل تعود إلى الجمعية الوطنية، حيث يملك ماكرون الأغلبية فيها. لكن سيكون من الصعب تجاهل مجلس الشيوخ في حالة تعديل الدستور، وماكرون يسعى إلى إصلاحات دستورية تتضمن خفض عدد النواب بنسبة الثلث، وهذا ما يحتاج إلى ثلاثة أخماس أعضاء البرلمان بمجلسيه أي ٥٥٥ نائباً وسناتوراً، الأمر الذي سيجبره على التفاوض مع الأحزاب الأخرى التي على الأرجح أن تسعى لعرقلة سياساته، ما قد يدفعه إلى استخدام سلاح الاستفتاء الشعبي.
«تسونامي» ماكرون الذي اجتاح قصر الإليزيه ثم الجمعية الوطنية وقف عند باب قصر لوكسمبورج. هل هي بداية انقشاع الوهم أو كما قال أحد المعلّقين الخبثاء إن حركة «إلى الأمام» بدأت بالتراجع إلى الوراء...

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"