متى تحاكم “إسرائيل” بارتكاب جرائم حرب؟

02:48 صباحا
قراءة 5 دقائق

هذا تقرير دولي خطير، خطير في محتواه، وخطير في صراحته وفصاحته، وخطير في تحديه بالرأي الموثق لدولة لا يجرؤ على تحديها كبار أباطرة هذا الزمان.

وما نعنيه هو التقرير الذي تلي أمام المجلس الدولي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في الأسبوع الماضي، وتناول جريمة الحرب التي ارتكبتها إسرائيل ضد قرية بيت حانون الفلسطينية ضمن مذابح عام 2006. وكانت الأمم المتحدة قد كلفت لجنة دولية لتقصي الحقائق برئاسة كبير الأساقفة الجنوب إفريقي ديزموند توتو حامل نوبل، ببحث حقيقة ما ارتكبته قوات الاحتلال الإسرائيلية في هجومها على بيت حانون بمختلف الأسلحة، ما أدى إلى استشهاد 19 فلسطينياً دون ذنب معروف حتى الآن.

وقد عكفت اللجنة الدولية على بحث جوانب المذبحة والتعرف مباشرة الى موقعها وسماع شهودها، ودراسة الاحتمالات التي دفعت قوات الاحتلال لاستخدام القوة المسلحة المفرطة في تدمير قرية فلسطينية والفتك بأهلها على نحو ما جرى.

وما يهمنا اليوم أن هذه اللجنة الدولية المكلفة من الأمم المتحدة والمجلس الدولي لحقوق الإنسان قد أثبتت جديتها وحيادها، مثلما أثبتت جرأتها في إعلان الحق والحقيقة بكل وضوح ومن دون تردد أو مجاملة أو حتى مواءمة، من تلك المعاني التي تستخدم في حالات كثيرة، إن تعلق الأمر بجريمة من الجرائم الإسرائيلية.

بوضوح شديد قالت اللجنة الدولية في شهادتها تقريرها الموثقة إن ما ارتكبته إسرائيل في بيت حانون هو جريمة حرب واضحة مكتملة الأركان، خصوصاً في ظل غياب تفسيرات واضحة من جانب الجيش الإسرائيلي.

والمعنى أن إسرائيل لم تستطع هذه المرة أن تخدع اللجنة الدولية وتقدم لها أكاذيبها المعتادة، تهرباً من مسؤولية المجازر والمذابح الدموية، التي ترتكبها ضد الشعب الفلسطيني بصفة مستمرة على مدى عقود، ولم تستطع أيضاً أن تستعين بالصديق الأمريكي لعرقلة صدور هذا التقرير الأمين، كما تعودت أن تفعل دائماً، ولم تستطع منذ البداية أن ترشو أو تبتز رئيس وأعضاء هذه اللجنة الدولية، فرئيسها شخصية دولية مرموقة لها مواقفها ونشاطها الإنساني، الأمر الذي أهله للحصول على جائزة نوبل، ناهيك عن المصداقية الشعبية التي حازها عبر السنوات.

ولأن التقرير قد صدر علناً وفيه من جرأة الاتهام ل إسرائيل بارتكاب جريمة حرب ما يكفي لترتيب نتائج عديدة وإجراءات محددة لمعاقبتها، فإننا رغم ذلك لا نستبشر خيراً، بتحرك التقرير من مكانه على الأرفف والمكاتب، إلى ساحات القضاء الدولية التي تُعنى بمحاكمة جرائم الحرب ومرتكبيها، كما هو الحال مع آخرين..

* * *

ونحسب أن هذه من المرات القليلة التي تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني، وفي إطار تحقيق دولي قامت به لجنة دولية مكلفة من الأمم المتحدة ومجلسها الدولي لحقوق الإنسان، ذلك أنه في كل مرة ارتكبت إسرائيل جريمة من جرائم الحرب، وكم هي كثيرة ومشهودة، إلا وسارعت الولايات المتحدة الأمريكية، حامية إسرائيل، بإفشال أي جهة وإجهاض أي تحقيق دولي رسمي أو غير رسمي، حتى لا تدان حليفتها بمثل هذه التهمة البشعة، التي تتغنى الولايات المتحدة نفسها الآن بأنها مسؤولة مسؤولية دولية عن تقديم المسؤولين عنها إلى المحكمة الدولية.

وعلى هذا الأساس فإننا لا نتوقع أن يجد تقرير كبير الأساقفة (ديزموند توتو) أي فرصة للتحرك عملياً نحو محاكمة المسؤولين الإسرائيليين عن هذه الجريمة النكراء، كأن يذهب التقرير إلى مجلس الأمن مثلاً، ليتخذ قراراً بالمحاكمة، وهو المخول بذلك وفقاً لميثاق المنظمة الدولية.

وقد يرشدنا القانونيون ونشطاء حقوق الإنسان أصحاب الخبرة الدولية، كيف يمكن لنا تفعيل هذا التقرير، وتحويله من تقرير إلى قرار، وهل من سلطة ومهام المجلس الدولي لحقوق الإنسان أحد فروع الأمم المتحدة الجديدة، اتخاذ إجراءات عملية في تفعيل التقرير، بحكم ما يحويه من تهمة صريحة موجهة لدولة الاحتلال بارتكاب جريمة حرب، وهل من حق أي عدد من الدول الأعضاء بمجلس حقوق الإنسان هذا، وهم بالضرورة أعضاء بالأمم المتحدة، التقدم لمجلس

الأمن بالتقرير مطالبين بتطبيق الميثاق الدولي عليه؟

أستطيع القول إن هذه هبة من السماء، جاءت للعرب على طبق من ذهب، ليقوموا ولو مرة واحدة بواجبهم العملي، وليس بمجرد الدعايات والشعارات..

يستطيع العرب، منفردين كانوا أو عبر الجامعة العربية أن يحملوا هذا التقرير الدولي إلى مشارق الأرض ومغاربها، وهم على ثقة واضحة بأنه تقرير دولي محايد، فلا ديزموند توتو قريبهم ولا نسيبهم، ولا المجلس الدولي لحقوق الإنسان بقادر على أن يصدر مثل هذا التقرير، من دون أن يكون أكثر ثقة بحياديته ومصداقيته، إذن فنحن نملك تقرير إدانة ل إسرائيل بارتكاب جريمة حرب لا مجادلة فيه.

نعلم جميعاً أن وزراء الخارجية العرب يتقدمهم الأمين العام للجامعة العربية، قد امتطوا ظهر الهواء وركبوا الطائرات الخاصة والرسمية وعبروا المحيط، خلال الأيام القليلة الماضية، ليهبطوا في نيويورك، ومعهم بالطبع ملفات وملفات، ولكن هل أخذ كل منهم نسخة من التقرير الدولي الذي نتحدث عنه، أم أن الأمر لم يبلغهم بعد؟ مرة أخرى هذه فرصة لا تعوض لكي يستعرض كل وزير خارجية عربي، خلال خطابه أمام الجمعية العام للأمم المتحدة في دورتها الحالية مضامين بل نصوص التقرير. كخطوة أولى، نقول للعالم عبر منبر المنظمة الدولية، إن العرب جادون هذه المرة في جرجرة إسرائيل على المحاكمة الدولية بارتكاب جريمة حرب موثقة.

سوف أكون حسن النية حتى النهاية، وأدعي أن العرب سيأخذون الأمر هذه المرة بالجدية اللازمة، وفي أيديهم وثيقة دولية صادرة عن هيئة كبرى من هيئات الأمم المتحدة نفسها، تدين إسرائيل، ومن ثم تستدعي محاكمتها دولياً كمجرمة حرب.

* * *

ولكن حسن نيتي أو نية كل العرب لا تفيد كثيراً في ساحة العلاقات الدولية، خصوصاً ذات المعايير المزدوجة، وها نحن نرى كيف تتزاحم الجهود الدولية لجلب الرئيس السوداني للمحاكمة الجنائية الدولية، بتهمة ارتكاب جريمة حرب في دارفور، ولكن نرى وسنرى كيف تتوارى مثل هذه الجهود وتتخافت الضغوط إن تعلق الأمر ب إسرائيل، وسنرى كيف تعد الخزائن لاستقبال تقرير الرجل الأمين القس توتو، لكي يحفظ في مكان آمن.. بارد!

وإلا طارت رؤوس، كما طارت بالأمس رؤوس كبيرة كانت مؤهلة لأن تلعب أدواراً أكبر.. فقد نسينا أن أحد أهم وأقوى أسباب إصرار واشنطن وإسرائيل وحلفائهما، على إزاحة الدكتور بطرس بطرس غالي، من منصبه كأمين عام للأمم المتحدة دون إعطائه فرصة الولاية الثانية، كما هو المعتاد، كان إصراره على إصدار تقرير دولي باسم الأمم المتحدة، يدين المذبحة الدموية التي ارتكبتها إسرائيل، ضد المواطنين اللبنانيين، الذين هربوا من القصف الإسرائيلي ولجأوا إلى أحد معسكرات الأمم المتحدة ببلدة قانا بجنوب لبنان.

لكن العدوانية الإسرائيلية المتوحشة لم تتردد في قصف هذا الملجأ الذي يرفع علم الأمم المتحدة ويقع في إطار حمايتها، والنتيجة الدموية هي قتل وإصابة المئات أغلبيتهم العظمى من النساء والأطفال.

وحين كلفت المنظمة الدولية إحدى هيئاتها بالتحقيق في الجريمة النكراء، جاءت النتيجة إدانة كاملة ل إسرائيل، وعندما وضع التحقيق بكل جوانبه أمام بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة، تسارعت من حوله الضغوط الدولية، لكي يحجب هذا التحقيق ولا يعلن ما فيه من إدانة ل إسرائيل، بتعمد قصف مركز للأمم المتحدة احتمى فيه أبرياء لبنانيون.

لكن ضمير الرجل لم يطاوعه، فأمر بإذاعة التحقيق.. فانتصر أخلاقياً، وخسر سياسياً ووظيفياً في أعلى منصب في العالم، والمؤكد أنه كانت هناك أسباب أخرى لعدم رضاء أمريكا وإسرائيل عن بطرس غالي، ولكن ظل تقرير قانا هو الدافع الأعظم للانتقام منه.

أما القس ديزموند توتو فلم يفعلوا فيه ذلك.. فهو كالطير السابح في الفضاء، بلا وظيفة إلا متعة الحرية!

* * *

* * آخر الكلام: قال الشاعر بدوي الجبل:

أنا والهم كلما أقبل الهم

مشوقٌ يلقى أخاه المشوقا

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"