هل لا تزال للإصلاح السياسي فرصة ومكان؟

02:04 صباحا
قراءة 4 دقائق

جاء الإعصار المالي فعصف بأموال ومؤسسات ودول، كانت تبدو راسخة الأركان، قوية البنيان، ولم يكن أحد يتصور أن هذا الإعصار يمكن أن يؤثر هو أو غيره، في الاقتصاد الأمريكي الذي يمثل ربع الاقتصاد العالمي.

لكن ما حدث قد حدث وانكشفت الثقوب والعيوب في ثياب الرأسمالية المتوحشة، التي شجعها خلال السنوات الماضية عتاة المحافظين الذين التفوا حول عنق الرئيس الأمريكي بوش.

فإذا بهذا الرئيس يبدأ عهده بتلقي الهجوم الدموي على برجي نيويورك، فيشن حربا على أفغانستان لا تزال دائرة حتى الآن دون حل، ثم إذا بهذا الرئيس المنحوس ينهي عهده بهذا الإعصار المالي المدمر، الذي ضرب الاقتصاد الأمريكي بعنف وأثار الفزع في المجتمع الأمريكي بفئاته المختلفة التي فقد معظمها نحو نصف مدخراته في ظل الأزمة المالية المتفاقمة.

نستطيع أن نتحدث طويلا عن التأثير الاقتصادي للإعصار الذي أربك الدنيا، ولكننا نتجاهل أحيانا التأثير السياسي لهذا الإعصار وخصوصا في الدول الصغيرة والفقيرة مثل دولنا.

وأظن أن قادة دولنا هذه قد استغلوا الآثار الاقتصادية المدمرة للإعصار المالي، ليتهربوا من الآثار السياسية. إن هذا الإعصار المالي جاء كحبل إنقاذ لنظمنا الحاكمة لكي تغلق الباب عن حكايات الإصلاح السياسي والتطور الديمقراطي، ولا تدع للمطالبين بهذا أو ذاك فرصة رفع الصوت، والحجة جاهزة هي: دعونا نواجه الآثار الاقتصادية وانعكاساتها السلبية على اقتصادنا أولا.

وهذا يعني إغلاق الباب وكتم الأصوات، في سبيل المحافظة على الأوضاع المتجمدة القائمة، دون تغيير حقيقي في بنية النظام، ودون تطوير لهياكل العمل السياسي، وصولا لتطور ديمقراطي حقيقي يصلح نموذجا للقياس.

صحيح أن الإعصار المالي ضرب اقتصاديات الدول الغربية بعنف وكلفها مبالغ طائلة وصرنا نسمع أرقاما بالتريليون كما لو كانت بالملايين، ولكنه لم يضرب بنيانها السياسي إلا في حالات هامشية، ذلك أن هذه الدول تتمتع بنظم ديمقراطية مستقرة على مدى مئات السنين، ولديها آليات عديدة للتحديث والتطوير ولمواجهة الأزمات، وانظر ما فعله الكونجرس الأمريكي، أو مجلس العموم البريطاني في مشاركة الحكومة في إدارة الأزمة المالية.

وربما يكون التأثير السياسي المباشر للإعصار المالي في أمريكا هو استغلال المرشح الديمقراطي للرئاسة، باراك أوباما، الفرصة لتصعيد حملته على الجمهوريين وحكمهم في البيت الأبيض وحاكمهم بوش المنحوس المتهم بأن سياسته هي التي أدت إلى الإعصار.

أما الوضع عندنا فهو مختلف تماما، فحين عقد زعماء الغرب أكثر من قمة خلال الأسابيع الماضية لم يتناد مسؤولونا لأي لقاء، وكأن الأمر لا يعنيهم، وحين انعقدت البرلمانات الغربية بسرعة لتشارك في إدارة الأزمة، ظلت برلماناتنا تنعم بمتعة الإجازات وتغرق في غيبوبة طويلة أيضا وكأن الأمر لا يعنيها.

وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على أن مسؤولينا لا يحبون كشف عوراتهم أو إذاعة أسرارهم على الملأ، حتى على بعضهم بعضا، فالاقتصاد والمال والدخل الوطني بمصادره العديدة تحت السيطرة المباشرة للمسؤولين سواء كان ذلك في دول النفط أو دول القحط، إنه سر من أسرار الحكم، ونعرف أن هناك مصادر مالية لا تدخل في ميزانية الدولة وبالتالي لا تخضع للرقابة من أي جهة سواء البرلمان أو غيره من أجهزة الرقابة المفوضة دستوريا، إنما توضع تحت تصرف المسؤولين مباشرة.

ولم يكن هذا ليحدث لولا أن أوضاعنا السياسية لم تطرق بعد أبواب الديمقراطية الحقيقية، التي تفرض الرقابة البرلمانية والمساءلة والمحاسبة والشفافية، ونطلق حرية الصحافة والرأي والتعبير لتتابع وتستكشف وتحاسب المسؤولين أمام الرأي العام.

وأحسب أن الإعصار المالي الهائل الذي ضرب الأموال العربية الهائلة المستثمرة والمودعة في البنوك الأمريكية والأوروبية قد ضرب أيضا الحسابات الخاصة والسرية لشخصيات عديدة تضم مسؤولين ورجال أعمال وهاربين بأموال الشعب، من دون أن نسمع لهم صوتا ولا شكاية ولا مجرد أنين، فالأمر كله في طي السرية والكتمان، وفي حماية بصمة الصوت وبصمة العين واحترازات أخرى.

وربما تكون الحالة المصرية هي الأكثر تعبيرا عن الجدل الإيجابي بين الحزب الوطني الحاكم وحكومته، الذي يقول إنه يطبق الإصلاح السياسي والديمقراطي تدريجيا، وبين المعارضة والقوى والتيارات السياسية الأخرى، التي ترى أن ما يطرحه الحزب الحاكم، ما هو إلا تزويق بالشعارات، في حين أن الحقيقة الواضحة، أن الحزب الحاكم وحكومته القائمة قد باعت البلاد بفضل سياساتها المتسرعة إلى الرأسمالية الموحشة، فإذ بالفقراء الذين يتزايد عددهم بسرعة هائلة ومخيفة، هم الذين دفعوا ويدفعون الثمن الباهظ من لحمهم الحي، بينما قلة الأقلية من المحظوظين والمقربين هم الذين جنوا الثمرة جاهزة.

وبصرف النظر عن جدية خطط الحزب الحاكم للإصلاح أو عدم جديتها، فإن الإعصار المالي الدولي يجب ألّا يتخذ ذريعة لدفع مطالب الإصلاح السياسي الحقيقي إلى الخلف بل إن ما جرى يجب أن يكون حافزا لإجراء هذا الإصلاح الآن قبل الغد. فنحن في حاجة ماسة لبناء هياكل سياسية ديمقراطية راسخة الأركان وفق المعايير الدولية المعترف بها.. هذه الهياكل هي التي تقوم عليها الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة التي نتطلع دائما إليها.

والأمر إذاً يحتاج إلى التوافق الوطني على اتخاذ حزمة من الإجراءات المحددة، قبل أن نصل إلى عامي 2011 و2012 حيث استحقاقات انتخابات الرئاسة والبرلمان، وهما حدثان مهمان يحددان مستقبل مصر على المدى المتوسط على الأقل، فها هي مرحلة طويلة من الحكم في مصر توشك على الرحيل.

من جانبنا نرى أن حزمة الإجراءات اللازمة يجب أن تضم إصدار دستور جديد يتفق مع التوجه الديمقراطي السائد عالميا، ومع التطلع الوطني لوثيقة دستورية لديمقراطية حديثة تصون الحقوق والواجبات وتفصل بين السلطات وتصوغ العلاقات الواضحة بين الرئاسة والسلطة التنفيذية خصوصا دون افتئات.

كما أن الأمر يحتاج إلى إصدار قانون جديد للانتخابات وللأحزاب السياسية يصون نزاهة صناديق الانتخابات ويطلق حرية النشاط الحزبي، ويحرره من قبضة الأمن وهيمنة الحزب الحاكم، كذلك فإنه من دون قانون ديمقراطي جديد لحرية الصحافة والإعلام وحرية الرأي والتعبير والمعلومات، لا تكتمل منظومة الإصلاح المأمول.

لقد خاضت مصر تجارب عديدة، ومارست إصلاحات مختلفة لكنها للأسف لم تراكم حتى الآن ذخيرة قوية وأرضية صلبة تنقلها إلى مصاف الدول الديمقراطية الناشئة، وقد آن الأوان أن نكسر هذه الدائرة، التي تحاصرنا، فتعزلنا عن تذوق طعام الديمقراطية الحقيقية.

ولعل ذلك هو التحدي الأعظم الذي يواجهنا ونواجهه، دون اتخاذ الإعصار المالي مبررا لتغيب الإصلاح السياسي والديمقراطي، بحجة أن مواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية أهم من استحقاق الإصلاح السياسي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"